الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون .

                                                                                                                                                                                                                                      في هذه الآية الكريمة حث على تقوى الله في الجملة ، واقترنت بالحث على النظر والتأمل فيما قدمت كل نفس لغد ، وتكرر الأمر فيها بتقوى الله ، مما يدل على شدة الاهتمام والعناية بتقوى الله على ما سيأتي تفصيله إن شاء الله ، سواء كان التكرار للتأكيد أم كان للتأسيس ، وسيأتي بيانه إن شاء الله .

                                                                                                                                                                                                                                      أما الاهتمام بالحث على التقوى ، فقد دلت له عدة آيات من كتاب الله تعالى ، ولو قيل : إن الغاية من رسالة الإسلام كلها ، بل ومن جميع الأديان هو تحصيل التقوى لما كان بعيدا ، وذلك للآتي :

                                                                                                                                                                                                                                      أولا : قوله تعالى : ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون [ 2 \ 21 ] ، ومعلوم أنه تعالى ما خلق الجن والإنس إلا لعبادته ، فتكون التقوى بمضمون هاتين الآيتين هي الغاية من خلق الثقلين الإنس والجن . وقد جاء النص مفصلا في حق كل أمة على حدة ، منها في قوم نوح - عليه السلام - قال تعالى : كذبت قوم نوح المرسلين إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون [ 26 \ 105 - 108 ] ، وفي قوم عاد قال تعالى : كذبت عاد المرسلين إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون [ 26 \ 123 - 126 ] ، وفي قوم لوط : كذبت قوم لوط المرسلين إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون [ 26 \ 160 - 163 ] ، وفي قوم شعيب قوله تعالى : كذب أصحاب الأيكة المرسلين إذ قال لهم شعيب ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون [ ص: 50 ] [ 26 \ 176 - 179 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      فكل نبي يدعو قومه إلى التقوى كما قدمنا ، ثم جاء القرآن كله دعوة إلى التقوى وهداية للمتقين ، كما في مطلع القرآن الكريم : الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين [ 2 \ 1 - 2 ] وبين نوع هذه الهداية المتضمنة لمعنى التقوى بقوله تعالى : الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون [ 2 \ 3 - 5 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد بين الشيخ - رحمة الله تعالى عليه - معنى التقوى عند قوله تعالى : ولكن البر من اتقى [ 2 \ 189 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      قال : لم يبين هنا من المتقي ، وقد بينه تعالى في قوله : ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون [ 2 \ 177 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد بينت آيات عديدة آثار التقوى في العاجل والآجل .

                                                                                                                                                                                                                                      منها في العاجل قوله تعالى : ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا [ 65 \ 4 ] ، وقوله : ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب [ 65 \ 2 - 3 ] ، وقوله : واتقوا الله ويعلمكم الله [ 2 \ 282 ] ، وقوله : إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون [ 16 \ 128 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      أما في الآجل وفي الآخرة ، فإنها تصحب صاحبها ابتداء إلى أبواب الجنة كما في قوله تعالى : وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين [ 39 \ 73 ] ، فإذا ما دخلوها آخت بينهم وجددت روابطهم فيما بينهم وآنستهم من كل خوف ، كما في قوله تعالى : الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ياعباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون [ ص: 51 ] إلى قوله : لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون [ 43 \ 67 - 73 ] إلى أن تنتهي بهم إلى أعلى عليين ، وتحلهم مقعد صدق ، كما في قوله تعالى : إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر [ 54 \ 54 - 55 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      فتبين بهذا كله منزلة التقوى من التشريع الإسلامي وفي كل شريعة سماوية ، وأنها هنا في معرض الحث عليها وتكرارها ، وقد جعلها الشاعر السعادة كل السعادة كما في قوله ، وهو لجرير :


                                                                                                                                                                                                                                      ولست أرى السعادة جمع مال ولكن التقي هو السعيد     فتقوى الله خير الزاد ذخرا
                                                                                                                                                                                                                                      وعند الله للأتقى مزيد



                                                                                                                                                                                                                                      والتقوى دائما هي الدافع على كل خير ، الرادع عن كل شر ، روى ابن كثير في تفسيره عن الإمام أحمد في مجيء قوم من مضر ، مجتابي الثمار والعباءة ، حفاة عراة متقلدي السيوف ، فيتمعر وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدخل ثم خرج ، فأمر بلالا ينادي للصلاة ، فصلى ثم خطب الناس وقرأ قوله تعالى : ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة [ 4 \ 1 ] إلى آخر الآية ، وقرأ الآية التي في سورة " الحشر " : ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد الآية [ 59 \ 18 ] تصدق رجل من ديناره من درهمه من ثوبه من صاع بره من صاع تمره حتى قال ولو بشق تمرة قال : فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها بل قد عجزت قال ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب حتى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل وجهه كأنه مذهبة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء " الحديث . فكانت التقوى دافعا على سن سنة حسنة تهلل لها وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                                                                      كما أنها تحول دون الشر ، من ذلك قوله تعالى : وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا [ 2 \ 282 ] ، وقوله : فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه [ 2 \ 283 ] ، فإن التقوى مانعة من بخس الحق ومن ضياع الأمانة ، وكقوله عن مريم في طهرها وعفتها لما أتاها جبريل وتمثل لها بشرا سويا : قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا [ 19 \ 18 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 52 ] وكما في حديث النفر الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى الغار ، ومنهم الرجل مع ابنة عمه لما قالت له : اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه ، فقام عنها وترك لها المال .

                                                                                                                                                                                                                                      وهكذا في تصرفات العبد كما في قوله تعالى : ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب [ 22 \ 32 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      والخطاب في قوله تعالى : ولتنظر نفس [ 59 \ 18 ] ، لكل نفس كما في قوله تعالى : ثم توفى كل نفس ما كسبت [ 2 \ 281 ] وقوله : ووفيت كل نفس ما كسبت [ 3 \ 25 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      فالنداء أولا بالتقوى لخصوص المؤمنين ، والأمر بالنظر لعموم كل نفس ؛ لأن المنتفع بالتقوى خصوص المؤمنين كما أوضحه الشيخ - رحمة الله عليه - في أول سورة البقرة ، والنظر مطلوب من كل نفس فالخصوص للإشفاق ، والعموم للتحذير .

                                                                                                                                                                                                                                      ويدل للأول قوله تعالى : وكان بالمؤمنين رحيما [ 33 \ 43 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      ويدل للثاني قوله : يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه والله رءوف بالعباد [ 3 ] ، وما في قوله تعالى : ما قدمت [ 59 \ 18 ] عامة في الخير والشر ، وفي القليل والكثير .

                                                                                                                                                                                                                                      ويدل للأول قوله تعالى : يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا .

                                                                                                                                                                                                                                      ويدل للثاني قوله تعالى : فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره [ 99 \ 7 - 8 ] ، والحديث " اتقوا النار ولو بشق تمرة " .

                                                                                                                                                                                                                                      وغدا تطلق على المستقبل المقابل للماضي ، كما قال الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                                      وأعلم علم اليوم والأمس قبله     ولكنني عن علم ما في غد عم



                                                                                                                                                                                                                                      وعليه أكثر استعمالاتها في القرآن ، كقوله تعالى عن إخوة يوسف : أرسله معنا غدا يرتع ويلعب [ 12 \ 12 ] ، وقوله : ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله [ 18 \ 23 - 24 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 53 ] وتطلق على يوم القيامة كما هنا في هذه الآية لدلالة القرآن على ذلك ، من ذلك قوله تعالى في نفس المعنى : يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر ياليتني كنت ترابا [ 78 \ 40 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      والقرائن في الآية منها : اكتنافها بالحث على تقوى الله قبله وبعده .

                                                                                                                                                                                                                                      ومنها : التذييل بالتحذير في قوله : إن الله خبير بما تعملون [ 59 \ 18 ] أي : بالمقاصد في الأعمال وبالظواهر والبواطن ، ولأن يوم القيامة هو موضع النسيان ، فاحتاج التنبيه عليه .

                                                                                                                                                                                                                                      ويكون التعبير عن يوم القيامة بغد لقرب مجيئه وتحقق وقوعه كقوله تعالى : اقتربت الساعة وانشق القمر [ 54 \ 1 ] ، وقوله : وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب إن الله على كل شيء قدير [ 16 \ 77 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن ناحية أخرى ، فإن الغد لكل إنسان بمعنى يوم القيامة يتحقق بيوم موته ، لأنه يعاين ما قد قدم يوم موته ، وقد نكر لفظ نفس وغد هنا فقيل في الأول لقلة من الناظرين ، وفي الثاني لعظم أمره وشدة هوله .

                                                                                                                                                                                                                                      وهنا قد تكرر الأمر بتقوى الله كما أسلفنا مرتين ، فقيل للتأكيد ، قاله ابن كثير ، وقيل للتأسيس ، قاله الزمخشري وغيره .

                                                                                                                                                                                                                                      فعلى أنه للتأكيد ظاهر وعلى التأسيس يكون الأول لفعل المأمور والثاني لترك المحظور ، مستدلين بمجيء موجب الفعل أولا : ولتنظر نفس ما قدمت ، ومجيء موجب التحذير ثانيا : إن الله خبير بما تعملون .

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا وإن كان له وجه ، ويشهد للتأكيد قوله تعالى : اتقوا الله حق تقاته [ 3 \ 102 ] ، وإن كانت نسخت بقوله : فاتقوا الله ما استطعتم [ 64 \ 16 ] ، فيدل لمفهومه قوله : وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا [ 9 \ 102 ] أي : بترك بعض المأمور ، وفعل بعض المحظور .

                                                                                                                                                                                                                                      وعليه فلا تتحقق التقوى إلا بمراعاة الجانبين ، ولكن مادة التقوى وهي اتخاذ الوقاية مما يوجب عذاب الله تشمل شرعا الأمرين معا لقوله تعالى في عموم اتخاذ الوقاية : قوا أنفسكم وأهليكم نارا [ ص: 54 ] [ 66 \ 6 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      فكان أحد الأمرين بالتقوى يكفي لذلك ويشمله ، ويكون الأمر بالتقوى الثاني لمعنى جديد ، وفي الآية ما يرشد إليه ، وهو قوله تعالى : ما قدمت ، لأن " ما " عامة كما قدمنا وصيغة " قدمت " على الماضي يكون الأمر بتقوى الله أولا بالنسبة لما مضى وسبق من عمل تقدم بالفعل ، ويكون النظر بمعنى المحاسبة والتأمل على معنى الحديث : " حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا " فقد ذكره ابن كثير .

                                                                                                                                                                                                                                      فإذا ما نظر في الماضي وحاسب نفسه ، وعلم ما كان من تقصير أو وقوع في محظور ، جاءه الأمر الثاني بتقوى الله لما يستقبل من عمل جديد ومراقبة الله تعالى عليه : والله بما تعملون خبير [ 2 \ 234 ] ، فلا يكون هناك تكرار ، ولا يكون توزيع ، بل بحسب مدلول عموم " ما " وصيغة الماضي " قدمت " والنظر للمحاسبة .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية