الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                [ ص: 410 ] الباب السادس عشر في سجود القرآن .

                                                                                                                وفي الجواهر ، قال القاضي أبو محمد : هو فضيلة ، واستقرأ ابن محرز من قوله في الكتاب : ليسجدها بعد الصبح ما لم يسفر - أنه سنة وقاله ( ش ) وابن حنبل ، وقال ( ح ) : واجب على القارئ والمستمع محتجا بقوله تعالى : ( وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون ) ، والذم دليل الوجوب ، ولأنه يترك له فعل الصلاة الواجبة ، وما يترك الواجب له فهو واجب ، والجواب عن الأول : ليس المراد القرآن كيف كان إجماعا ، وإذا كان مخصوصا بحمل كتاب الله تعالى على السجود المجمع عليه في الخمس أولى من المختلف فيه . وعن الثاني : أن المتروك هو القيام في غير الفاتحة ، وهو غير واجب ، وفي الموطأ : أن عمر - رضي الله عنه - قرأ سجدة وهو على المنبر يوم الجمعة فنزل ، وسجد وسجدنا معه ، ثم قرأها يوم الجمعة الأخرى فتهيأ الناس للسجود ; فقال : على رسلكم ، إن الله لم يكتبها علينا إلا أن نشاء ، ولم ينكره عليه أحد فكان إجماعا .

                                                                                                                [ ص: 411 ] فروع سبعة :

                                                                                                                الأول في الكتاب : سجود القرآن إحدى عشر سجدة ليس في المفصل منها شيء : المص ، والرعد ، والنحل ، وبنو إسرائيل ، ومريم ، والأولى من الحج ، والفرقان ، والهدهد ، والم تنزيل ، وص ، وحم تنزيل ، قال القاضي في الإشراف وروي عنه أربع عشرة باقيها في المفصل ، وقاله ( ش ) ، و ( ح ) ، وخمس عشرة ثانية الحج مكملتها ، وفي الجواهر جمهور المتأخرين يعدون ذلك اختلافا ، والقاضي أبو محمد يقول : السجود في الجميع مأمور به ، وإنما الإحدى عشرة هي العزائم ، قال صاحب البيان المفصل : كله مكي ، قيل : أوله الحجرات ، وقيل : ( ق ) ، وقيل : الرحمن ، سمي بذلك لكثرة تفصيله ببسم الله الرحمن الرحيم بين السورتين ، وفي الصحيحين : أنه - عليه السلام - سجد في النجم وسجد من كان معه ، وفي إذا السماء انشقت ، وفي اقرأ باسم ربك . وفي أبي داود عن عقبة بن عامر ، قال : قلنا : يا رسول الله ، فضلت سورة الحج بأن فيها سجدتين ؟ قال : نعم ، من لم يسجدهما فلا يقرأهما ، والثانية عند قوله : ( يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم ) . وذلك عند مالك محمول على النسخ ; لإجماع قراء المدينة وفقهائها على ترك ذلك مع تكرر القراءة ليلا ونهارا ، ولا يجمعون على ترك السنة ، وفي أبي داود : أن - عليه السلام - لم يسجد في شيء [ ص: 412 ] من المفصل منذ تحول إلى المدينة ، قال سند : قال مالك و ( ح ) : سجد عند قوله تعالى : ( رب العرش العظيم ) . وقال ( ش ) عند قوله تعالى ( ويعلم ما تخفون وما تعلنون ) . لنا أنه كلام متصل فيسجد عند آخره ، والمذهب أنه في ( ص ) عند قوله تعالى : ( وخر راكعا وأناب ) .

                                                                                                                وروي عنه عند قوله ( وحسن مآب ) ، وفي الكتاب هو في تنزيل عند قوله تعالى : ( إن كنتم إياه تعبدون ) - وقاله ( ح و ش ) عند قوله تعالى ( وهم لا يسأمون ) . المدرك في ذلك أن السجود شرع عند أربعة أشياء : عند الأمر به ، أو مدح الساجدين ، أو ذم المستكبرين ، أو الشكر كما في ( ص ) ، والأمر هاهنا عندما ذكرناه . وفي الجواهر قال ابن حبيب : يسجد في الانشقاق في آخر السورة ، وقال القاضي عند قوله تعالى ( وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون ) .

                                                                                                                الثاني في الجواهر : يشترط فيها شرائط الصلاة إلا السلام والإحرام ، ويكبر للخفض والرفع إن كان في صلاة ، وإلا ففي التكبير في الكتاب ثلاثة أقوال : رجع عن عدم التكبير إليه ، وخيره ابن القاسم ، وفي أبي داود كان - عليه السلام - يقرأ القرآن ، فإذا مر بالسجدة كبر وسجد وسجدنا معه . وقال ابن [ ص: 413 ] حنبل : يسلم . لنا القياس على الطواف وعمل السلف ، والفرق بينه وبين سجود السهو : أنه من توابع الصلاة ، فأعطي حكمها ، وهي من توابع القراءة والقراءة ليس لها إحرام ولا سلام .

                                                                                                                الثالث في الكتاب : يسجد من قرأ السجدة في الصلاة وغيرها ، وإن كان في غير إبان صلاة وغير متطهر فلا يقرأها ويتعداها ; لما تقدم من قوله - عليه السلام - : " من لم يسجدهما فلا يقرأهما " ، ومن جهة القواعد أن ملابسة السبب توجب توجه الأمر ، فتركه حينئذ يقبح أما من لم يلابس السبب لا يكون تاركا للمأمور به ، ويعوض عن القراءة قراءة أخرى ، قال صاحب النكت : يترك ذكر السجود خاصة ، وقال سند : يترك ما لا يغير المعنى ولا نظام اللفظ ، وإذا تركها لعدم الطهارة فالمذهب لا شيء عليه ، وقال ابن الجلاب : يقرؤها إذا تطهر أو خرج وقت النهي ، ويسجد لها ، والأظهر المذهب ; فإن القضاء من شعار الفرائض ، وفي الكتاب : يقرؤها بعد الصبح إلى الإسفار ، وبعد العصر ما لم تتغير الشمس ، وقاله ( ش ) و ( ح ) ، وقاس في الكتاب : على صلاة الجنازة ، ومنع في الموطأ من ذلك للنهي عن الصلاة حينئذ ، وحكى سند الفرق عن مطرف بين الصبح فيسجد قياسا على ركوع الطائف ، وبين العصر فلا يسجد ، والفرق للمذهب بينه وبين النوافل : الاختلاف في وجوبه ، ويفعل في الصلاة وتترك له ، ولأن النفل تبع للفرض وهو تبع للقراءة وهي جائزة حينئذ .

                                                                                                                [ ص: 414 ] تنبيه

                                                                                                                فيه شبه الصلاة بالطهارة والسترة والقبلة والتكبير ، وشبه القراءة من جهة عدم الإحرام والسلام ، ولهذا الشبه جاز الطواف حينئذ لحصول فيه . قال في الجواهر : فإن لم يذكر حتى ركع في الأولى مضى على ركوعه ، وقال أشهب : ينحط للسجود ، وسبب الخلاف : هل تنعقد الركعة دون الرفع أم لا ؟ وإن قصد بالركوع السجدة لم تحصل له ; لأنه غير هيئتها ، وأشار ابن حبيب إلى جواز ذلك ، وإن قصد السجود فركع ففي اعتداده به قولان ، وإن ذكر وهو منحن خر لسجدته ، وإن لم يذكر حتى رفع لم يعتد بركعته عند ابن القاسم بخلاف مالك ، وإن ذكر منحنيا رفع متمما للركعة ، وإن ذكر بعد رفعه تمت ركعته ، ويقرأ السجدة فيما بعد ، وسبب الخلاف المتقدم أن نيته كانت للسجود ، وهو نفل والركوع فرض ، وفي إجزاء النفل إذا خرج من الفرض إليه خلاف ، وإذا أعادها في الركعة الثانية ، فهل قبل قراءة أم القرآن أو بعدها ؟ قولان للمتأخرين ، وقال أشهب : يسجدها وإن سلم ، وإن قصد السجود فركع وذكر وهو منحن فخر ساجدا ، قال ابن حبيب : إن طال الركوع بالطمأنينة سجد بعد السلام ; هذا إذا قلنا لا يعتد بالركعة ، أما إذا قلنا يعتد فيقرأ السجدة فيما بقي من صلاته ، ويسجد بعد السلام ، وقال المغيرة : لا سجود عليه ورجحه المازري لعدم الزيادة هاهنا ، قال سند : فإن لم يذكر السجدة حتى ركع في الثانية أتم نافلته ، فإن شرع في غيرها قرأ السجدة وسجدها ، ولا سجود عليه للإخلال بها في الأولى ، وهو في التلقين ; لأن السجود فضيلة ، وفي الجلاب يسجد ; لأنه سنة .

                                                                                                                [ ص: 415 ] الرابع في الكتاب : لا يقرؤها في الفريضة منفرد ولا إمام ; لأنها زيادة في الصلاة ، فإن قرأها الإمام سجد بهم ، قال سند : قال ابن حبيب : يقرؤها في الفرض ويسجد ، ويعيدها في الثانية إذا نسيها في الأولى ، وحيث سجد فأعاد القراءة في الركعة الثانية سجد ، وإن أعادها خارج الصلاة لا يسجد إلا في مجالس ، أما المجلس الواحد فلا ، ولو قرأ سجدات مختلفة في مجلس سجد لجميعها ; فالركعات كالمجالس . وروى ابن وهب : يقرؤها الإمام في الفريضة ، وقاله ( ش ) ، وروى أشهب لا يقرؤها إلا أن يكون الجمع قليلا لا يخلط عليهم ، وقال ابن حبيب : لا يقرؤها في السر بخلاف الجهر - وقاله ( ح ) وابن حنبل ; لأن الجهر لا تخليط فيه ، وفي الصحيحين : أنه - عليه السلام - كان يقرأ في صبح الجمعة بتنزيل السجدة ، و ( هل أتى على الإنسان ) . ونحن نقول بموجبه فإن من قرأها سجدها ، وإنما الخلاف هل يقصدها أم لا ؟ وفي الجواهر : يسجد الإمام في النافلة ، وإن لم يأمن التخليط على المنصوص لفعل السلف ذلك في قيام رمضان ، ثم إذا قرأ السجدة في الفريضة وإن كان ممنوعا فليجهر بها للإعلام ، فإن لم يفعل فهل يتبع لوجوب متابعة الإمام ، أو لا يتبع لجواز أن يكون ساهيا ؟ قولان للمتأخرين .

                                                                                                                الخامس : كره في الكتاب قراءة السجدة وحدها ، قال صاحب النكت : إلا أن يضيف إليها جميع آياتها . قال المازري : المراد جملة آياتها ; لأنها مقصودة للسجدة لا للتلاوة ، وهو خلاف العمل .

                                                                                                                [ ص: 416 ] السادس في الكتاب : إذا لم يسجد القارئ يسجد المستمع ، ويكره الجلوس للسجود خاصة ، قال المازري واللخمي : يسجد السامع مع القارئ بخمسة شروط : بلوغ القارئ ، وطهارته ، وسجوده ، وقراءته لا ليسمع الناس ، وقصد الاستماع من السامع ، وقال مالك في الموطأ : لا يتبع الرجل المرأة في السجود . وفي الجواهر : لا بد أن يكون أهلا للإمامة ، قال سند : فإن سجدها المعلم والمتعلم ، قال مالك : يسجد الآخر أول مرة فقط ، وقال أصبغ : لا يسجد مطلقا ; نظرا لأن هذا باب مشقة فيترك ، ولو سها القارئ عن السجود فإن كان قريبا سجد ، وإلا رجع إلى قراءة السجدة ، وإذا لم يسجد الإمام ففي المستمع ثلاثة أقوال : يسجد عند ابن القاسم قياسا على سجود السهو ، ولا يسجد عند ابن حبيب ; لأنه تبع ولم يوجد الأصل ، وخيره أشهب .

                                                                                                                السابع في الواضحة : يسجد الماشي ، وينزل لها الراكب ; إلا في سفر القصر فيومئ على دابته .

                                                                                                                فصل في الجواهر : سجدة الشكر مكروهة على المشهور عند بشارة أو مسرة وروي الجواز ، وقال به ابن حبيب ، وقال ( ش ) و ( ح ) : سنة . لنا أن النعم كانت متجددة على النبي - عليه السلام - والسلف وأعظمها الهداية والإيمان ، ولو كانت سنة لواظب عليها فكانت تكون متواترة ، احتجوا بأنه - عليه السلام - سجد لفتح مكة ، ولمجيء رأس أبي جهل إليه ، ولوصول كتاب علي - رضي الله عنه - إليه بإسلام همدان . وفي البخاري : سجد كعب بن مالك لما بشر بتوبة الله تعالى عليه .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية