الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
الباب الخامس .

في آداب المتعلم والمعلم .

أما المتعلم فآدابه ووظائفه الظاهرة كثيرة ولكن تنظم تفاريقها عشر جمل .

الوظيفة الأولى تقديم طهارة النفس عن رذائل الأخلاق ومذموم الأوصاف إذ العلم عبادة القلب وصلاة السر وقربة الباطن إلى الله تعالى وكما لا تصح الصلاة التي هي وظيفة الجوارح الظاهرة إلا بتطهير الظاهر عن الأحداث والأخباث فكذلك لا تصح عبادة الباطن وعمارة القلب بالعلم إلا بعد طهارته عن خبائث الأخلاق وأنجاس الأوصاف .

قال صلى الله عليه وسلم بنى : الدين على النظافة وهو كذلك باطنا وظاهرا قال الله تعالى إنما المشركون نجس تنبيها للعقول على الطهارة والنجاسة غير مقصورة على الظواهر بالحس فالمشرك قد يكون نظيف الثوب مغسول البدن ولكنه نجس الجوهر أي : باطنه ملطخ بالخبائث .

والنجاسة عبارة عما يجتنب ويطلب البعد منه وخبائث صفات الباطن أهم بالاجتناب فإنها مع خبثها في الحال مهلكات في المآل ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب والقلب بيت هو منزل الملائكة ومهبط أثرهم ومحل استقرارهم والصفات الرديئة مثل الغضب والشهوة والحقد والحسد والكبر والعجب وأخواتها كلاب نابحة فأنى تدخله الملائكة وهو مشحون بالكلاب ونور العلم لا يقذفه الله تعالى في القلب إلا بواسطة الملائكة وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء وهكذا ما يرسل من رحمة العلوم إلى القلوب إنما تتولاها الملائكة الموكلون بها وهم المقدسون المطهرون المبرءون عن الصفات المذمومات فلا يلاحظون إلا طيبا ولا يعمرون بما عندهم من خزائن رحمة الله إلا طيبا طاهرا .

ولست أقول المراد بلفظ البيت هو القلب وبالكلب هو الغضب والصفات المذمومة ولكني أقول هو تنبيه عليه وفرق بين تعبير الظواهر إلى البواطن وبين التنبيه للبواطن من ذكر الظواهر مع تقرير الظواهر .

ففارق الباطنية بهذه الدقيقة فإن هذه طريق الاعتبار وهو مسلك العلماء والأبرار إذ معنى الاعتبار أن يعبر ما ذكر إلى غيره فلا يقتصر عليه كما يرى العاقل مصيبة لغيره فيكون فيها له عبرة بأن يعبر منها إلى التنبه لكونه أيضا عرضة للمصائب وكون الدنيا بصدد الانقلاب فعبوره من غيره إلى نفسه ومن نفسه إلى أصل الدنيا عبرة محمودة فاعبر أنت أيضا من البيت الذي هو بناء الخلق إلى القلب الذي هو بيت من بناء الله تعالى ومن الكلب الذي ذم لصفته لا لصورته وهو ما فيه من سبعية ونجاسة إلى الروح الكلبية وهي السبعية .

واعلم أن القلب المشحون بالغضب والشره إلى الدنيا والتكلب عليها والحرص على التمزيق لأعراض الناس كلب في المعنى وقلب في الصورة فنور البصيرة يلاحظ المعاني لا الصور والصور في هذا العالم غالبة على المعاني والمعاني باطنة فيها وفي الآخرة تتبع الصور المعاني وتغلب المعاني .

فلذلك يحشر كل شخص على صورته المعنوية فيحشر الممزق لأعراض الناس كلبا ضاريا والشره إلى أموالهم ذئبا عاديا والمتكبر عليهم في صورة نمر وطالب الرياسة في صورة أسد .

وقد وردت بذلك الأخبار وشهد به الاعتبار عند ذوي البصائر والأبصار .

التالي السابق


(الباب الخامس)

من هذا الكتاب (في) بيان (آداب المتعلم والمعلم) مما ينبغي لهما أن يستعملاه (أما المتعلم) وتقديمه باعتبار الأولية والسابقية؛ لأنه مبدأ حال المعلم وكل معلم فقد كان متعلما (فآدابه ووظائفه كثيرة) اختصت بالتأليف (ولكن ينظم تفاريعها) أي: أقسامها المفرعة منها (تسع جمل) وما عداها يرجع إليها:

(الوظيفة الأولى) وأصل الوظيفة ما يوظفه الإنسان أي: يقدره لآخر في زمان معين من طعام أو رزق أو علف للدابة ذكره شراح الشفاء قال شيخنا ويبقى النظر هل هو عربي أو مولد؟ وإلا ظهر الثاني والجمع وظائف (تقديم طهارة النفس) وتنظيفها (عن رذائل الأخلاق) المعنوية (ومذموم الأوصاف) من نحو شهوة وكبر وحسد وميل إلى الدنيا وبغض وحقد وغل وغش وغير ذلك مما تقدم ذكر بعضها ويأتي ذكر بقيتها (إذ العلم) من حيث هو هو (عبادة القلب) وعمارته (وصلاة السر وقربة الباطن) الذي لا يصل (إلى الله تعالى) إلا به (وكما لا تصح الصلاة) المعروفة (التي هي وظيفة الجوارح الظاهرة) نظرا إلى القيام والقعود والقراءة (إلا بتطهير الظاهر) من بدن المصلي ( عن الأحداث) وسيأتي الفرق بنيهما في كتاب أسرار الطهارة (فكذلك لا تصح عبادة الباطن وعمارة القلب بالعلم إلا بعد طهارته عن خبائث الأخلاق وأنجاس الأوصاف) ، وهذا ظاهر (قال عليه) الصلاة و (السلام: بني الدين على النظافة) .

قال العراقي: لم أجده هكذا وفي الضعفاء لابن حبان من حديث عائشة: تنظفوا فإن الإسلام نظيف وللطبراني في الأوسط بسند ضعيف جدا من حديث ابن مسعود: تخللوا فإنه نظافة والنظافة تدعو إلى الإيمان. اهـ .

قلت: وأورد الجلال في جامعه ورمز للخطيب عن عائشة أن الإسلام نظيف فتنظفوا فإنه لا يدخل الجنة إلا نظيف، والمعنى: الإسلام نقي من الدنس فنقوا ظواهركم من دنس نحو مطعم وملبس حرام وملابسة قذر وبواطنكم بإخلاص العقيدة ونفي الشرك ومجانبة الأهواء وقلوبكم من غل وحقد وحسد فإنه لا يدخل الجنة إلا طاهر الظاهر والباطن، ومن لم يكن كذلك طهرته ثم لا بد من حشر عصاة الموحدين مع الأبرار في دار القرار فالمنفي الدخول الأولي قاله المناوي، وأشار إلى ضعف الحديث قال السخاوي وعند الطبراني في الأوسط والدارقطني في الأفراد من حديث نعيم بن موزع عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة مرفوعا بلفظ: الإسلام نظيف ثم ساق كما عند الخطيب ونعيم ضعيف، وأخرج الترمذي وغيره من حديث مهاجر بن مسمار عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه مرفوعا إن الله طيب يحب الطيب نظيف يحب النظافة، كريم يحب الجود، وقال غريب، وللدارقطني من حديث عبد الله بن إبراهيم الغفاري [ ص: 306 ] عن المنكدر بن محمد عن أبيه ومن حديث عبد الله بن أبي بكر بن المنكدر عن عمه محمد عن جابر مرفوعا: إن الله يحب الناسك النظيف، ولأبي نعيم من حديث الأوزاعي عن حسان بن عطية عن محمد بن المنكدر عن جابر، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى رجلا وسخة ثيابه، فقال: أما وجد هذا شيئا ينقي به ثيابه، ورأى رجلا شعث الرأس فقال: أما وجد هذا شيئا يسكن به شعره، وفي لفظ: رأسه، وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة وشواهد، لما ذكره المصنف (وهو كذلك ظاهرا) من الأحداث والأخباث (وباطنا) من تطهير الأخلاق (وقال) الله (تعالى إنما المشركون نجس ) أي: ذو نجس وقيل: جعلهم نجسا مبالغة والنجس كل مستقذر (تنبيها للعقول) السليمة (على أن الطهارة والنجاسة غير مقصورة على الظواهر المدركة بالحس) ولذا قال بعضهم: النجاسة ضربان: ضرب يدرك بالحاسة وضرب يدرك بالبصيرة، وعلى الثاني وصف الله المشركين بالنجاسة (فالمشرك قد يكون نظيف الثوب مغسول البدن) في الظاهر (ولكنه نجس الجوهر أي: باطنه متلطخ بالخبائث) من الشرك بالله وفساد العقيدة (والنجاسة عبارة عما يجتنب ويطلب البعد منه) نظرا إلى أصل المعنى، ثم أطلق على القذارة لكونها مما يطلب البعد منها (وخبائث صفات الباطن) من نحو غل وحسد وكبر وكفر (أهم بالاجتناب) والردع عنها (فإنها مع خبثها في الحال) الراهن (مهلكات في المآل) في آخر الأمر (ولذلك قال عليه) الصلاة و (السلام: لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب) ونص الذريعة: حق المترشح لتعلم الحقائق أن يراعي ثلاثة أمور: الأول: أن يطهر نفسه من رديء الأخلاق تطهير الأرض للبذر من خبائث النبات وقد تقدم أن الطاهر لا يسكن إلا بيتا طاهرا وأن الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب. اهـ .

فانظر هذا الكلام المختصر المفيد وقد زاد عليه المصنف في تقريره وبسطه كما ترى. والحديث قال العراقي متفق عليه، من حديث أبي طلحة الأنصاري. اهـ .

قلت: وبقية الحديث ولا صورة، وهكذا أخرجه أيضا الإمام أحمد والترمذي، والنسائي وابن ماجه، كلهم من طريق أبي طلحة وأخرجه الطبراني في الكبير، والضياء في المختارة عن أبي أيوب رفعه مثله، وعند أبي داود والنسائي والحاكم عن علي مرفوعا: لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة ولا كلب ولا جنب، وعند الإمام أحمد، والبخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه عن ابن عباس عن أبي طلحة: لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب، ولا صورة تماثيل، وفي الباب عن ابن عمر، وعائشة، وميمونة وابن عباس وأسامة وبريدة وابن عمرو وأبي أمامة، وأبي رافع، قال المناوي: المراد بالملائكة ملائكة الرحمة والبركة والطائفون على العباد للزيارة واستماع الذكر لا الكتبة فإنهم لا يفارقون، المكلف فهو عام أريد به الخصوص، والمراد بالكلب ولو لنحو زرع أو حرث كما رجحه النووي، خلافا لما جزم به القاضي لأن كلب وصورة نكرتان في سياق النفي. اهـ .

وقد أورد المصنف هذا الحديث في كتابه الذي سماه الإملاء على الإحياء، إذ كتب على أسئلة وردت عليه في مواضع معينة من مشكلاته، وانجر إلى هذا البحث استطرادا في الجواب عن أول الأسئلة، ونحن نورده لك ممزوجا بكلامه هنا حسب المناسبة، قال: فإن قلت: فما الذي ضر هؤلاء الأصناف الثلاثة من أهل النطق عن النظر والبحث حتى يعلموا أو عن الاعتقاد حتى يخلصوا من عذاب الله وهم في الظاهر قادرون على ذلك؟ وما المانع الخفي الذي أبعدهم عنه وهم يعلمون أن ما عليهم في ذلك كبير مؤنة ولا عظيم مشقة؟

واعلم أن هذا السؤال يفتح بابا عظيما ويجر قاعدة كبرى يخاف من التوغل فيها أن نخرج عن المقصود ولكن لا بد إذ وقع في الأسماع ووعته قلوب الطالبين واشرأبت إلى سماع الجواب عنه، أن نورد في ذلك قدر ما يقع به الكفاية وتقنع به النفوس بحول الله -عز وجل- نعم ماسبق في العلم القديم لا تجري المقادير بخلافه في الحديث منعهم من ذلك إرادة الله -عز وجل- واختصاص قلوبهم بالأخلاق الكلابية والشيم الذئابية والطباع السبعية، وغلبتها عليها، والملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب (والقلب بيت) تولى الله بناءه وبيده و ( وهو منزل الملائكة) الكرام (ومهبط أثرهم [ ص: 307 ] ومحل استقرارهم) أعده أن يكون خزانة علمه، ومسرب مكنوناته، ومغشى أنواره ومهب نفحاته، ومحل مكاشفاته ومجرى رحمته، وهيأه لتحصيل المعرفة (والصفات الرديئة) والأخلاق المذمومة (مثل الغضب والشهوة والحقد والحسد والكبر والعجب) والغل والغش (وأخواتها كلاب نابحة) وذئاب عادية وسباع ضارية (فأنى) وفي نسخة: فلا (تدخله الملائكة وهو مشحون) أي: مملوء (بالكلاب) أي: بصفاتها أي: متى كان فيه شيء من تلك الأخلاق لم تدخله الملائكة ولم ينزل عليه شيء من الخير من قبله (ونور العلم لا يقذفه الله في القلب إلا بواسطة الملائكة) إذ هي الوسائط بين الله تعالى وبين خلقه وهم الوفود منه بالخيرات والواصلون إليه وعنه بالباقيات الصالحات قال الله -عز وجل- ( وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ) أي: ما يرد عن الله -عز وجل- إما بواسطة ملك أو إلقاء في روع أو مكاشفة بحقيقة أو ضرب لمثل مع العلم بتأويله (فهكذا) وفي نسخة: وهكذا في جميع (ما يرسل من رحمة العلوم) المفاضة (إلى القلوب إنما يتولاها الملائكة الموكلون بها وهم المقدسون) من الأدناس (المبرءون عن المذمومات فلا يلاحظون) بوارداتهم (إلا طيبا) من الأصل (ولا يعمرون بما عندهم من خزائن رحمة الله إلا طاهرا) في الباطن والظاهر قال: ولولا تلك الأخلاق المذمومة التي حلت فيهم وهي التي ذم الكلب لأجلها لما احترمت الملائكة بإذن الله -عز وجل- عن حلولها فيها وهي لا تخلو من خير تنزل به، ويكون معها بحيث ما حلت حل الخير في ذلك القلب بحلولها وإنما هي مرتصدة لها فحيثما وجدت قلبا خاليا ولو حينا من الدهر وزمنا نزلت عليه، ودخلته وثبت ما عندها من الخير حوله فإن لم يطرأ على الملائكة ما يزعجها عنه من تلك الأخلاق بواسطة الشياطين الذين هم في مقابلة الملائكة، ثبتت عنده وسكنت فيه ولم تبرح عنه وعمرته بقدر سعة البيت وانشراحه من الخير فإن كان البيت كبير الاتساع أكثرت فيه من متاعها، واستعانت بغيرها حتى يمتلئ القلب من متاعها وجهازها وهو الإيمان والصلاح وضروب المعارف النافعة عند الله تعالى، فإذا طرق ذلك البيت المعمور طارق شيطان ليسرق من ذلك الخير الذي هو متاع الملك ونكت فيها خلقا مذموما لا يوجد إلا في الكلب وهو متاع الشيطان قابله الملك وطرده عن ذلك المحل، فإن جاء للشيطان مدد من الهوى من قبل النفس ولم يجد الملك نصرة من عزم اليقين من قبل الروح انهزم الملك وأخلى البيت ونهب المتاع وخرب بعد عمارته وأظلم بعد إنارته وضاق بعد انشراحه .

وهكذا حال من آمن وكفر وأطاع وعصى واهتدى وضل قال: فإن قلت: كيف آمن من كفر وأطاع من عصى، واهتدى من ضل; إذ كانت الشياطين لا تفارق قلب الكافر والعاصي والضال بما يبثون فيه من الأخلاق المذمومة، وأصناف الخير إنما ترد من الله -عز وجل- بواسطة الملائكة وهي لا تدخل موضعا يحل فيه شيء مما ذكر وإذا لم تدخل لم يصل إلى الخير الذي يكون معها ولم تصل إليه فعلى هذا يجب أن يبقى كل كافر على حاله، ومن لم يخلق مؤمنا معصوما فلا سبيل له إلى الإيمان على هذا المفهوم فالجواب: إن للشياطين غفلات وللأخلاق المذمومة عزفات، كما أن للملائكة غيبات ولتواتر الخير عليها فترات، فإذا وجد الملك قلبا خاليا ولو زمنا فردا حل فيه وأراه ما عنده من الخير، فإن صادف منه قبولا ولما عرض عليه تشوفا ونزوعا أورد عليه ما يملؤه ويستغرق لبه، وإن صادف منه ضجرا وسمع منه لجنود الشياطين استغاثة وبالأخلاق الكلابية استعانة رحل عنه وتركه (ولست أقول المراد بلفظ البيت) في الحديث (هو القلب وبالكلب هو الغضب و) بقية (الصفات) المذمومة (ولكن أقول هو) أي: ما ذكر من التأويل (تنبيه عليه) لأهل الباطن (وفرق بين تغيير الظواهر إلى البواطن وبين التنبيه للبواطن من ذكر الظواهر مع تقرير الظواهر) على ما هي عليها وعلى هذا (يفارق الباطنية) وهم طائفة من الملاحدة (بهذه الدقيقة) وقد ذكر شيء مما يتعلق بتأويلاتهم في أول الكتاب (فإن هذا طريق الاعتبار وهو مسلك) السادة من (العلماء والأبرار) ومن [ ص: 308 ] نحا منهجهم من أهل الأسرار (إذ معنى الاعتبار أن يعبر) أي: يتجاوز (مما ذكر إلى غيره ولا تقتصر عليه) هذا هو الأصل نظرا إلى أنه افتعال من العبور (كما يرى العاقل مصيبة) نزلت (بغيره فيكون له فيها عبرة بأن يعبر منها إلى) حال (التنبه) من الغفلة (لكونه أيضا عرضة) أي: معروضا (للمصائب) والنوازل (وكون الدنيا بصدد الانقلاب) والزوال ولقد أجاد من قال:

من حلقت لحية جاره فليسكب الماء على لحيته

(فعبوره من غيره إلى نفسه ومن نفسه إلى أصل الدنيا عبرة محمودة) عند أهل الحق (فاعتبر أنت من) لفظ (البيت الذي هو بناء الخلق) من اللبن والطين (إلى القلب الذي هو بيت من بناء الله سبحانه) ومهبط أنواره وملائكته (و) اعتبر أيضا (من) لفظ (الكلب الذي هو ذم لصفته لا لصورته) الظاهرة (وهو ما فيه من سبعية ونجاسة إلى روح الكلبية وهو السبعية) وقد أورد الشيخ المصنف -رحمه الله- هذا البحث في إملائه الذي تقدم ذكره فقال: فإن قلت: فأي بيت فهم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في الخطاب وأي كلب أراد هل بيت القلب وكلب الخلق أو بيت اللبن وكلب الحيوان؟

فاعلم أن الحديث خارج على سبب ومعناه، وجملته أن المقصود بالأخبار بيت اللبن وكلب الحيوان المعلوم ولا شك في ذلك ولكن يستقرأ منه ما قلناه لك ويستنبط من مفهومه ما نبهناك عليه وتتخطى منه إلى ما أشرنا لك نحوه ولا نكير في ذلك إذ دل عليه العلم، وجملة الاستنباط ولم تمجه القلوب المستفتاة ولم يصادم به شيء من أركان الشريعة، فلا تكن جامدا، ولا تجزع من تشنيع جاهل، ولا من نفور مقلد، وكثيرا ما ورد شرع مقرون بسبب فرأى أهل الاعتبار وجه تعديه عن سببه إلى ما هو في معناه، ومشابه له من الجهة التي يصلح أن يتعدى بها إليها ولولا ذلك ما قال عليه الصلاة والسلام: رب مبلغ علم أوعى من سامع، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ثم قال: فإن قلت: قد علم السبب الذي جاء هذا الحديث عليه، وفيه فهل يعدى عن سببه ويترقى منه إلى مثل ما ترقى من الحديث الآخر؟ فالجواب: نعم يترقى منه إلى قريب من ذلك وشبهه، ويكون هذا الحديث منبها عليه وهو أن الصورة المنحوتة قد اتخذت آلهة، وعبدت من دون الله عز وجل، وقد نبه الله تعالى قلوب المؤمنين على عيب فعل من رضي بذلك، ونقص إدراك من دان به قال تعالى مخبرا عن إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- : أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون فكان امتناع دخول الملائكة من دخول بيت فيه صورة لأجل أن فيه ما عبد من دون الله تعالى، أو ما يكون به ما هو على مثاله ويترقى من ذلك المعتبر إلى أن القلب الذي هو بيت بناه الله تعالى ليكون مهبط الملائكة ومحلا لذكره ومعرفته وعبادته وحده دون غيره، وإذا أدخل فيه معبود غير الله تعالى وهو الهوى لم تقربه الملائكة أيضا، فإن قيل: فظاهر الحديث يقتضي منافرة الملائكة لكل صورة عملوها وما ذكرته الآن تعليلا ينبغي أن لا يقتضي إلا منافرة ما عبد وما نحت على مثاله، قلت: إن مشابهة الصورة المنحوتة كلها في المعنى الذي قصد بها القصور من أجله وهو مضارعة ذوات الأرواح وما نحت للعبادة، إنما قصد به تشبيه ذوي روح، فلما كان هذا المعنى هو الجامع لها وجب تحريم كل صورة ومنافرة الملائكة لها فإن قيل: فما وجه الترخيص فيما هو رقم في ثوب، قلت: إن ذلك لأجل أنها ليست مقصودة في نفسها وإنما المقصود الثوب، الذي رقمت فيه هذا آخر ما أورد المصنف في إملائه فتأمل .

(واعلم أن القلب المشحون) أي: المعلق (بالغضب والتشرف) أي: التطلع وفي نسخة: والشره (إلى الدنيا والتكلب عليها) أي: على تحصيلها (والحرص على التمزيق) أي: التشقيق (لإعراض الناس كلب في المعنى) لاشتماله على هذه الصفات الثلاثة المذمومة فهو إياه نظرا إلى ذلك (وقلب في الصورة) الظاهرة (ونور البصيرة) الذي قذف فيه (يلاحظ المعاني) المعقولة (دون الصورة) المحسوسة (والصور في هذا العالم) بفتح اللام (غالبة على المعاني) لظهورها (والمعاني باطنة فيها) بطون الماء في العود (وفي) عالم (الآخرة) تكشف الحجب (وتتبع الصور المعاني وتغلب المعاني) عليها (فلذلك يحشر كل شخص على صورته المعنوية) التي [ ص: 309 ] مات عليها (فيحشر الممزق لأعراض الناس) في الدنيا (كلبا ضاريا) أي: على صورته (و) يحشر (الشره) النهم (إلى أموالهم) أخذا واختلاسا وفي نسخة: وآخذ أموالهم (ذئبا) عاديا (و) يحشر (المتكبر عليهم في صورة نمر و) يحشر (طالب الرياسة) فيهم (في صورة أسد) واختص كل حيوان بهذه الأوصاف فمن وجدت فيه صفة، وفارق الدنيا عليها، ولم ينفصل عنها حشر على صورته، ويشير إلى ذلك ما رواه ابن ماجه عن جابر رفعه يحشر الناس على نياتهم (وقد وردت بذلك الأخبار) والآثار (وشهد به الاعتبار عند ذوي البصائر والأبصار) .

قال العراقي: أما حديث حشر الممزق لأعراض الناس كلبا ضاريا فقد أخرجه الثعلبي في التفسير من حديث البراء بسند ضعيف، وقال في تخريجه الكبير لم أجد لذلك أصلا إلا ما رواه الثعلبي في التفسير بإسناد ضعيف من حديث البراء بن عازب بنحو من ذلك. اهـ .

قلت: وقد وجدت في حشر المتكبر حديثا إلا أنه ليس كما أورده المصنف أنه في صورة نمر، وذلك فيما رواه الإمام أحمد، والترمذي، وحسنه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، رفعه: يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال يغشاهم الذل من كل مكان يساقون إلى سجن في جهنم يسمى يولس تعلوهم نار الأنيار يسقون من عصارة أهل النار طينة الخبال، وأخرجه أبو نعيم في الحلية في ترجمة كعب الأحبار، من ثلاثة طرق إحداهن عن معمر عن أبي مصعب عن أبيه عن كعب، بنحو هذا السياق، والثانية والثالثة من رواية موسى بن عقبة عن عطاء بن أبي غزوان عن أبيه عن كعب والذي فلق البحر لموسى إن فيما أنزل الله في التوراة أنه يحشر المتكبرون يوم القيامة فساق نحوه .




الخدمات العلمية