الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ القول في تأويل قوله تعالى : ( ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين ( 36 ) )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ودخل مع يوسف السجن فتيان فدل بذلك على متروك قد ترك من الكلام ، وهو : ( ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين ) ، فسجنوه وأدخلوه السجن ودخل معه فتيان ، فاستغني بدليل قوله : ( ودخل معه السجن فتيان ) ، على إدخالهم يوسف السجن ، من ذكره .

وكان الفتيان ، فيما ذكر ، غلامين من غلمان ملك مصر الأكبر ، أحدهما صاحب شرابه ، والآخر صاحب طعامه ، كما : -

[ ص: 95 ] 19266 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : فطرح في السجن يعني يوسف ( ودخل معه السجن فتيان ) ، غلامان كانا للملك الأكبر الريان بن الوليد ، كان أحدهما على شرابه ، والآخر على بعض أمره ، في سخطة سخطها عليهما ، اسم أحدهما " مجلث " والآخر " نبو " ، و " نبو " الذي كان على الشراب .

19267 - حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( ودخل معه السجن فتيان ) ، قال : كان أحدهما خبازا للملك على طعامه ، وكان الآخر ساقيه على شرابه .

وكان سبب حبس الملك الفتيين فيما ذكر ، ما : -

19268 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السدي ، قال : إن الملك غضب على خبازه ، بلغه أنه يريد أن يسمه ، فحبسه وحبس صاحب شرابه ، ظن أنه مالأه على ذلك . فحبسهما جميعا ; فذلك قول الله : ( ودخل معه السجن فتيان ) .

وقوله : ( قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا ) ، ذكر أن يوسف صلوات الله عليه لما أدخل السجن ، قال لمن فيه من المحبسين ، وسألوه عن عمله : إني أعبر الرؤيا . فقال أحد الفتيين اللذين أدخلا معه السجن لصاحبه : تعال فلنجربه ، كما : -

19269 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو بن محمد ، عن أسباط ، عن السدي ، قال : لما دخل يوسف السجن قال : أنا أعبر الأحلام . فقال أحد الفتيين لصاحبه : هلم نجرب هذا العبد العبراني فتراءيا له ! فسألاه ، من غير أن يكونا رأيا شيئا . فقال الخباز : إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير [ ص: 96 ] منه؟ وقال الآخر : إني أراني أعصر خمرا؟

19270 - حدثنا ابن وكيع وابن حميد ، قالا حدثنا جرير ، عن عمارة بن القعقاع ، عن إبراهيم ، عن عبد الله ، قال : ما رأى صاحبا يوسف شيئا ، وإنما كانا تحالما ليجربا علمه .

وقال قوم : إنما سأله الفتيان عن رؤيا كانا رأياها على صحة وحقيقة ، وعلى تصديق منهما ليوسف لعلمه بتعبيرها .

ذكر من قال ذلك :

19271 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : لما رأى الفتيان يوسف ، قالا والله ، يا فتى لقد أحببناك حين رأيناك .

19272 - . . . . قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن عبد الله ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد أن يوسف قال لهم حين قالا له ذلك : أنشدكما الله أن لا تحباني ، فوالله ما أحبني أحد قط إلا دخل علي من حبه بلاء ، لقد أحبتني عمتي فدخل علي من حبها بلاء ، ثم لقد أحبني أبي فدخل علي بحبه بلاء ، ثم لقد أحبتني زوجة صاحبي هذا فدخل علي بحبها إياي بلاء ، فلا تحباني بارك الله فيكما ! قال : فأبيا إلا حبه وإلفه حيث كان ، وجعلا يعجبهما ما يريان من فهمه وعقله . وقد كانا رأيا حين أدخلا السجن رؤيا ، فرأى " مجلث " أنه يحمل فوق رأسه خبزا تأكل الطير منه ، ورأى " نبو " أنه يعصر خمرا ، فاستفتياه فيها ، وقالا له : ( نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين ) ، إن فعلت .

وعنى بقوله : ( أعصر خمرا ) ، أي : إني أرى في نومي أني أعصر عنبا . وكذلك ذلك في قراءة ابن مسعود فيما ذكر عنه .

19273 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن أبي سلمة الصائغ ، عن [ ص: 97 ] إبراهيم بن بشير الأنصاري ، عن محمد ابن الحنفية قال في قراءة ابن مسعود : " إني أراني أعصر عنبا .

وذكر أن ذلك من لغة أهل عمان ، وأنهم يسمون العنب خمرا .

ذكر من قال ذلك :

19274 - حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( إني أراني أعصر خمرا ) ، يقول : أعصر عنبا ، وهو بلغة أهل عمان ، يسمون العنب خمرا .

19275 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ; وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي عن سلمة بن نبيط ، عن الضحاك : ( إني أراني أعصر خمرا ) ، قال : عنبا ، أرض كذا وكذا يدعون العنب " خمرا " .

19276 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : ( إني أراني أعصر خمرا ) ، قال : عنبا .

19277 - حدثت عن المسيب بن شريك ، عن أبي حمزة ، عن عكرمة ، قال : أتاه فقال : رأيت فيما يرى النائم أني غرست حبلة من عنب ، فنبتت ، فخرج فيه عناقيد فعصرتهن ، ثم سقيتهن الملك ، فقال : تمكث في السجن ثلاثة أيام ، ثم تخرج فتسقيه خمرا .

وقوله : ( وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك ) ، يقول تعالى ذكره : وقال الآخر من الفتيين : إني أراني في منامي أحمل فوق رأسي خبزا ; يقول : أحمل على رأسي فوضعت " فوق " مكان " على " ( تأكل الطير منه ) ، يعني : من الخبز .

وقوله : ( نبئنا بتأويله ) ، يقول : أخبرنا بما يؤول إليه ما أخبرناك أنا رأيناه في منامنا ، ويرجع إليه ، كما : -

19278 - حدثني الحارث ، قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا يزيد ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( نبئنا بتأويله ) ، قال : به قال الحارث ، قال أبو عبيد : يعني مجاهد أن " تأويل الشيء " ، هو الشيء . قال : ومنه : " تأويل الرؤيا " ، إنما هو الشيء الذي تؤول إليه .

وقوله : ( إنا نراك من المحسنين ) اختلف أهل التأويل في معنى " الإحسان " الذي وصف به الفتيان يوسف .

فقال بعضهم : هو أنه كان يعود مريضهم ، ويعزي حزينهم ، وإذا احتاج منهم إنسان جمع له .

ذكر من قال ذلك :

19279 - حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا سعيد بن منصور ، قال : حدثنا خلف بن خليفة ، عن سلمة بن نبيط ، عن الضحاك بن مزاحم ، قال : كنت جالسا معه ببلخ ، فسئل عن قوله : ( نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين ) ، قال : قيل له : ما كان إحسان يوسف؟ قال : كان إذا مرض إنسان قام عليه ، وإذا احتاج جمع له ، وإذا ضاق أوسع له .

[ ص: 99 ] 19280 - حدثنا إسحاق ، عن أبي إسرائيل ، قال : حدثنا خلف بن خليفة ، عن سلمة بن نبيط ، عن الضحاك ، قال : سأل رجل عبيد بن سليمان عن قوله : ( إنا نراك من المحسنين ) ما كان إحسانه؟ قال : كان إذا مرض إنسان في السجن قام عليه ، وإذا احتاج جمع له ، وإذا ضاق عليه المكان وسع له .

19281 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن أبي بكر بن عبد الله ، عن قتادة ، قوله : ( إنا نراك من المحسنين ) ، قال : بلغنا أن إحسانه أنه كان يداوي مريضهم ، ويعزي حزينهم ، ويجتهد لربه . وقال : لما انتهى يوسف إلى السجن وجد فيه قوما قد انقطع رجاؤهم ، واشتد بلاؤهم ، فطال حزنهم ، فجعل يقول : أبشروا واصبروا تؤجروا ، إن لهذا أجرا ، إن لهذا ثوابا . فقالوا : يا فتى ، بارك الله فيك ، ما أحسن وجهك ، وأحسن خلقك ، لقد بورك لنا في جوارك ، ما نحب أنا كنا في غير هذا منذ حبسنا ، لما تخبرنا من الأجر والكفارة والطهارة ، فمن أنت يا فتى؟ قال : أنا يوسف ، ابن صفي الله يعقوب ، ابن ذبيح الله إسحاق بن إبراهيم خليل الله . وكانت عليه محبة . وقال له عامل السجن : يا فتى ، والله لو استطعت لخليت سبيلك ، ولكن سأحسن جوارك ، وأحسن إسارك ، فكن في أي بيوت السجن شئت .

19282 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن خلف الأشجعي ، عن سلمة بن نبيط ، عن الضحاك في : ( إنا نراك من المحسنين ) ، قال : كان يوسع للرجل في مجلسه ، ويتعاهد المرضى .

وقال آخرون : معناه : ( إنا نراك من المحسنين ) ، إذا نبأتنا بتأويل رؤيانا هذه .

ذكر من قال ذلك :

19283 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : استفتياه في رؤياهما ، وقالا له : ( نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين ) ، إن فعلت . [ ص: 100 ]

قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب ، القول الذي ذكرناه عن الضحاك وقتادة .

فإن قال قائل : وما وجه الكلام إن كان الأمر إذن كما قلت ، وقد علمت أن مسألتهما يوسف أن ينبئهما بتأويل رؤياهما ، ليست من الخبر عن صفته بأنه يعود المريض ويقوم عليه ، ويحسن إلى من احتاج في شيء ، وإنما يقال للرجل : " نبئنا بتأويل هذا فإنك عالم " ، وهذا من المواضع التي تحسن بالوصف بالعلم ، لا بغيره؟

قيل : إن وجه ذلك أنهما قالا له : نبئنا بتأويل رؤيانا محسنا إلينا في إخبارك إيانا بذلك ، كما نراك تحسن في سائر أفعالك : ( إنا نراك من المحسنين ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية