الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          المسألة الثانية

          ومن جملة التأويلات البعيدة ما يقوله أصحاب أبي حنيفة في قوله - صلى الله عليه وسلم - ( في أربعين شاة شاة ) [1] من أن المراد به مقدار قيمة الشاة ، وذلك لأن قوله ( في أربعين شاة شاة ) قوي الظهور في وجوب الشاة عينا ، حيث إنه خصصها بالذكر ، ولا بد في ذلك من إضمار حكم ، وهو إما الندب أو الوجوب ، وإضمار الندب ممتنع لعدم اختصاص الشاة الواحدة من النصاب به فلم يبق غير الواجب .

          ولا يخفى أنه يلزم من تأويل ذلك بالحمل على وجوب مقدار قيمة الشاة بناء على أن المقصود إنما هو دفع حاجات الفقراء وسد خلاتهم جواز دفع القيمة ، وفيه رفع الحكم ، وهو وجوب الشاة بما استنبط منه من العلة ، وهي دفع حاجات الفقراء واستنباط العلة من الحكم [2] إذا كانت موجبة لرفعه كانت باطلة .

          ومما يلتحق من التأويلات بهذا التأويل [3] ما يقوله بعض الناس في قوله تعالى : ( إنما الصدقات للفقراء والمساكين ) الآية ، من جواز الاقتصار على البعض نظرا إلى أن المقصود من الآية إنما هو دفع الحاجة في جهة من الجهات المذكورة ، لا دفع [ ص: 57 ] الحاجة عن الكل لأن الآية [4] ظاهرة في استحقاق جميع الأصناف المذكورة للصدقة ، حيث إنه أضافها إليهم بلام التمليك في عطف البعض على البعض بواو التشريك ، وما استنبط من هذا الحكم من العلة يكون رافعا لحكم المستنبط منه فلا يكون صحيحا .

          وما يقال من أن مقصود الآية إنما هو بيان مصارف الزكاة وشروط الاستحقاق ، فنحن وإن سلمنا كون ذلك مقصودا من الآية ، فلا نسلم أنه لا مقصود منها سواه ، ولا منافاة بين كون ذلك مقصودا ، وكون الاستحقاق بصفة التشريك مقصودا ، وهو الأولى موافقة لظاهر الإضافة بلام التمليك ، والعطف بواو التشريك .

          ويقرب من هذا التأويل أيضا ما يقوله أصحاب أبي حنيفة في قوله تعالى : ( فإطعام ستين مسكينا ) من أن المراد به إطعام طعام ستين مسكينا ، مصيرا منهم إلى أن المقصود إنما هو دفع الحاجة ، ولا فرق في ذلك بين دفع حاجة ستين مسكينا ، ودفع حاجة مسكين واحد في ستين يوما ، وهو بعيد أيضا وذلك لأن قوله تعالى ( فإطعام ) فعل لا بد له من مفعول يتعدى إليه .

          وقوله ( ستين مسكينا ) صالح أن يكون مفعول الإطعام ، وهو مما يمكن الاستغناء به مع ظهوره ، والطعام وإن كان صالحا أن يكون هو مفعول الإطعام إلا أنه غير ظاهر ومسكوت عنه فتقدير حذف المظهر وإظهار المفعول المسكوت عنه بعيد في اللغة والواجب عكسه .

          وإذا كان ذلك ظاهرا في وجوب رعاية العدد فيما استنبط منه يكون موجبا لرفعه فكان ممتنعا ، كيف وإنه لا يبعد أن يقصد الشارع مع ذلك رعاية العدد دفعا لحاجة ستين مسكينا ، نظرا للمكفر بما يناله من دعائهم له واغتنامه لبركتهم [5] وقلما يخلو جمع من المسلمين عن ولي من أولياء الله تعالى يكون مستجاب الدعوة مغتنم الهمة ، وذلك في الواحد المعين مما يندر .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية