الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير

من أهم تفاصيل الأحوال في القتال الذي كتب على المسلمين في الآية قبل هذه ، أن يعلموا ما إذا صادف القتال بينهم وبين المشركين الأشهر الحرم إذ كان محجرا في العرب من عهد [ ص: 324 ] قديم ، ولم يذكر الإسلام إبطال ذلك الحجر; لأنه من المصالح قال تعالى جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام فكان الحال يبعث على السؤال عن استمرار حرمة الشهر الحرام في نظر الإسلام .

روى الواحدي في أسباب النزول عن الزهري مرسلا وروى الطبري عن عروة بن الزبير مرسلا ومطولا ، أن هذه الآية نزلت في شأن سرية عبد الله بن جحش ، فإن النبيء صلى الله عليه وسلم أرسله في ثمانية من أصحابه يتلقى عيرا لقريش ببطن نخلة في جمادى الآخرة في السنة الثانية من الهجرة ، فلقي المسلمون العير فيها تجارة من الطائف وعلى العير عمرو بن الحضرمي ، فقتل رجل من المسلمين عمرا وأسر اثنين من أصحابه وهما عثمان بن عبد الله بن المغيرة والحكم بن كيسان وفر منهم نوفل بن عبد الله بن المغيرة وغنم المسلمون غنيمة ، وذلك أول يوم من رجب وهم يظنونه من جمادى الآخرة ، فعظم ذلك على قريش وقالوا : استحل محمد الشهر الحرام وشنعوا ذلك فنزلت هذه الآية . فقيل : إن النبيء صلى الله عليه وسلم رد عليهم الغنيمة والأسيرين ، وقيل : رد الأسيرين وأخذ الغنيمة .

فإذا صح ذلك كان نزول هذه الآية قبل نزول آية كتب عليكم القتال وهو كره لكم وآية وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم بمدة طويلة فلما نزلت الآيتان بعد هذه ، كان وضعهما في التلاوة قبلها بتوقيف خاص لتكون هذه الآية إكمالا لما اشتملت عليه الآيتان الأخريان ، وهذا له نظائر في كثير من الآيات باعتبار النزول والتلاوة .

والأظهر عندي أن هذه الآية نزلت بعد الآية التي قبلها وأنها تكملة وتأكيد لآية الشهر الحرام بالشهر الحرام .

والسؤال المذكور هنا هو سؤال المشركين النبيء صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية ، هل يقاتل في الشهر الحرام كما تقدم عند قوله تعالى الشهر الحرام بالشهر الحرام .

وهذا هو المناسب لقوله هنا وصد عن سبيل الله إلخ ، وقيل : سؤال المشركين عن قتال سرية عبد الله بن جحش .

فالجملة استئناف ابتدائي ، وردت على سؤال الناس عن القتال في الشهر الحرام ومناسبة موقعها عقب آية كتب عليكم القتال ظاهرة .

والتعريف في الشهر الحرام تعريف الجنس ، ولذلك أحسن إبدال النكرة منه في قوله : [ ص: 325 ] قتال فيه ، وهو بدل اشتمال فيجوز فيه إبدال النكرة من المعرفة ، بخلاف بدل البعض على أن وصف النكرة هنا بقوله فيه يجعلها في قوة المعرفة .

فالمراد بيان حكم أي شهر كان من الأشهر الحرم وأي قتال ، فإن كان السؤال إنكاريا من المشركين فكون المراد جنس هذه الأشهر ظاهر ، وإن كان استفسارا من المسلمين فكذلك ، ومجرد كون الواقعة التي تسبب عليها السؤال وقعت في شهر معين لا يقتضي تخصيص السؤال بذلك الشهر ، إذ لا يخطر ببال السائل بل المقصود السؤال عن دوام هذا الحكم المتقرر عندهم قبل الإسلام وهو لا يختص بشهر دون شهر .

وإنما اختير طريق الإبدال هنا وكان مقتضى الظاهر أن يقال : يسألونك عن القتال في الشهر الحرام لأجل ، الاهتمام بالشهر الحرام تنبيها على أن السؤال لأجل الشهر أيقع فيه قتال ؟ لا لأجل القتال هل يقع في الشهر وهما متآيلان ، لكن التقديم لقضاء حق الاهتمام ، وهذه نكتة لإبدال عطف البيان تنفع في مواقع كثيرة ، على أن في طريق بدل الاشتمال تشويقا بارتكاب الإجمال ثم التفصيل ، وتنكير " قتال " مراد به العموم ، إذ ليس المسئول عنه قتالا معينا ولا في شهر معين ، بل المراد هذا الجنس في هذا الجنس . و فيه ظرف صفة لقتال مخصصة له .

وقوله قل قتال فيه كبير إظهار لفظ القتال في مقام الإضمار ليكون الجواب صريحا حتى لا يتوهم أن الشهر الحرام هو الكبير ، وليكون الجواب على طبق السؤال في اللفظ ، وإنما لم يعرف لفظ القتال ثانيا باللام مع تقدم ذكره في السؤال ، لأنه قد استغنى عن تعريفه باتحاد الوصفين في لفظ السؤال ولفظ الجواب وهو ظرف ( فيه ) ، إذ ليس المقصود من تعريف النكرة باللام إذا أعيد ذكرها إلا التنصيص على أن المراد بها تلك الأولى لا غيرها ، وقد حصل ذلك بالوصف المتحد ، قال التفتازاني : فالمسئول عنه هو المجاب عنه وليس غيره كما توهم بناء على أن النكرة إذا أعيدت نكرة كانت غير الأولى ، لأن هذا ليس بضربة لازم يريد أن ذلك يتبع القرائن .

والجواب تشريع إن كان السؤال من المسلمين ، واعتراف وإبكات إن كان السؤال إنكارا من المشركين ، لأنهم توقعوا أن يجيبهم بإباحة القتال فيثوروا بذلك العرب ومن في قلبه مرض .

[ ص: 326 ] والكبير في الأصل هو عظيم الجثة من نوعه ، وهو مجاز في القوي والكثير والمسن والفاحش ، وهو استعارة مبنية على تشبيه المعقول بالمحسوس ، شبه القوي في نوعه بعظيم الجثة في الأفراد ، لأنه مألوف في أنه قوي ، وهو هنا بمعنى العظيم في المآثم بقرينة المقام ، مثل تسمية الذنب كبيرة ، وقول النبيء صلى الله عليه وسلم وما يعذبان في كبير وإنه لكبير الحديث .

والمعنى أن القتال في الأشهر الحرم إثم كبير ، فالنكرة هنا للعموم بقرينة المقام ، إذ لا خصوصية لقتال قوم دون آخرين ، ولا لقتل في شهر دون غيره ، لا سيما ومطابقة الجواب للسؤال قد أكدت العموم ، لأن المسئول عنه حكم هذا الجنس وهو القتال في هذا الجنس وهو الشهر الحرام من غير تفصيل ، فإن أجدر أفراد القتال بأن يكون مباحا هو قتالنا المشركين ومع ذلك فهو المسئول عنه وهو الذي وقع التحرج منه ، أما تقاتل المسلمين فلا يختص إثمه بوقوعه في الشهر الحرام ، وأما قتال الأمم الآخرين فلا يخطر بالبال حينئذ .

والآية دليل على تحريم القتال في الأشهر الحرم وتقرير لما لتلك الأشهر من الحرمة التي جعلها الله لها منذ زمن قديم ، لعله من عهد إبراهيم عليه السلام فإن حرمة الزمان تقتضي ترك الإثم في مدته .

وهذه الأشهر هي زمن للحج ومقدماته وخواتمه وللعمرة كذلك فلو لم يحرم القتال في خلالها لتعطل الحج والعمرة ، ولذلك أقرها الإسلام أيام كان في بلاد العرب مشركون لفائدة المسلمين وفائدة الحج ، قال تعالى : جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام الآية .

وتحريم القتال في الشهر الحرام قد خصص بعد هذه الآية ثم نسخ ، فأما تخصيصه فبقوله تعالى ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه إلى قوله الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص .

وأما نسخه فبقوله تعالى براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر إلى قوله فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم فإنها صرحت بإبطال العهد الذي عاهد المسلمون المشركين على الهدنة ، وهو العهد الواقع في صلح الحديبية; لأنه لم يكن عهدا مؤقتا بزمن معين ولا بالأبد ، ولأن المشركين نكثوا أيمانهم [ ص: 327 ] كما في الآية الأخرى ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول . ثم إن الله تعالى أجلهم أجلا وهو انقضاء الأشهر الحرم من ذلك العام وهو عام تسعة من الهجرة في حجةأبي بكر بالناس ، لأن تلك الآية نزلت في شهر شوال وقد خرج المشركون فقال لهم فسيحوا في الأرض أربعة أشهر فأخرها آخر المحرم من عام عشرة من الهجرة ، ثم قال فإذا انسلخ الأشهر الحرم أي تلك الأشهر الأربعة فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم فنسخ تحريم القتال في الأشهر الحرم ، لأن المشركين جمع معرف بلام الجنس وهو من صيغ العموم وعموم الأشخاص يستلزم عموم الأزمنة والأمكنة على التحقيق ، ولذلك قاتل النبيء صلى الله عليه وسلم ثقيفا في شهر ذي القعدة عقب فتح مكة كما في كتب الصحيح .

وأغزى أبا عامر إلى أوطاس في الشهر الحرام ، وقد أجمع المسلمون على مشروعية الغزو في جميع أشهر السنة يغزون أهل الكتاب وهم أولى بالحرمة في الأشهر الحرم من المشركين .

فإن قلت : إذا نسخ تحريم القتال في الأشهر الحرم فما معنى قول النبيء صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا فإن التشبيه يقتضي تقرير حرمة الأشهر . قلت : إن تحريم القتال فيها تبع لتعظيمها وحرمتها وتنزيهها عن وقوع الجرائم والمظالم فيها فالجريمة فيها تعد أعظم منها لو كانت في غيرها .

والقتال الظلم محرم في كل وقت ، والقتال لأجل الحق عبادة فنسخ تحريم القتال فيها لذلك وبقيت حرمة الأشهر بالنسبة لبقية الجرائم .

وأحسن من هذا أن الآية قررت حرمة القتال في الأشهر الحرم لحكمة تأمين سبل الحج والعمرة ، إذ العمرة أكثرها في رجب ولذلك قال قتال فيه كبير واستمر ذلك إلى أن أبطل النبيء صلى الله عليه وسلم الحج على المشركين في عام حجة أبي بكر بالناس; إذ قد صارت مكة بيد المسلمين ودخل في الإسلام قريش ومعظم قبائل العرب والبقية منعوا من زيارة مكة ، وأن ذلك كان يقتضي إبطال تحريم القتال في الأشهر الحرم; لأن تحريمه فيها لأجل تأمين سبيل الحج والعمرة .

وقد تعطل ذلك بالنسبة للمشركين ولم يبق الحج إلا للمسلمين وهم لا قتال بينهم ، إذ قتال الظلم محرم في كل زمان وقتال الحق يقع في كل وقت ما لم يشغل عنه شاغل مثل الحج ، فتسميته [ ص: 328 ] نسخا تسامح ، وإنما هو انتهاء مورد الحكم ، ومثل هذا التسامح في الأسماء معروف في كلام المتقدمين ، ثم أسلم جميع المشركين قبل حجة الوداع وذكر النبيء صلى الله عليه وسلم حرمة الأشهر الحرم في خطبته ، وقد تعطل حينئذ العمل بحرمة القتال في الأشهر الحرم ، إذ لم يبق مشرك يقصد الحج .

فمعنى نسخ تحريم القتال في الأشهر الحرم أن الحاجة إليه قد انقضت كما انتهى مصرف المؤلفة قلوبهم من مصارف الزكاة بالإجماع لانقراضهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية