الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              [ ص: 344 ] المسألة الثالثة

              وذلك أن الذي يظهر من كلام المتقدمين أن النسخ عندهم في الإطلاق أعم منه في كلام الأصوليين ، فقد يطلقون على تقييد المطلق نسخا ، وعلى تخصيص العموم بدليل متصل ، أو منفصل نسخا ، وعلى بيان المبهم والمجمل نسخا كما يطلقون على رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر نسخا ; لأن جميع ذلك مشترك في معنى واحد ، وهو أن النسخ في الاصطلاح المتأخر اقتضى أن الأمر المتقدم غير مراد في التكليف ، وإنما المراد ما جيء به آخرا ؛ فالأول غير معمول به ؛ والثاني : هو المعمول به .

              وهذا المعنى جار في تقييد المطلق ، فإن المطلق متروك الظاهر مع مقيده ، فلا إعمال له في إطلاقه ، بل المعمل هو المقيد ، فكأن المطلق لم يفد مع مقيده شيئا فصار مثل الناسخ والمنسوخ ، وكذلك العام مع الخاص ; إذ كان ظاهر العام يقتضي شمول الحكم لجميع ما يتناوله اللفظ فلما جاء الخاص أخرج حكم ظاهر العام عن الاعتبار فأشبه الناسخ المنسوخ إلا أن اللفظ العام لم يهمل مدلوله جملة ، وإنما أهمل منه ما دل عليه الخاص ، [ ص: 345 ] وبقي السائر على الحكم الأول والمبين مع المبهم كالمقيد مع المطلق فلما كان كذلك استسهل إطلاق لفظ النسخ في جملة هذه المعاني لرجوعها إلى شيء واحد .

              ولا بد من أمثلة تبين المراد ، فقد روي عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى : من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد [ الإسراء : 18 ] : إنه ناسخ لقوله تعالى : من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها [ الشورى : 20 ] .

              وعلى هذا التحقيق تقييد لمطلق إذا كان قوله : نؤته منها مطلقا ، ومعناه مقيد بالمشيئة ، وهو قوله في الآية الأخرى : لمن نريد ، وإلا فهو إخبار ، والأخبار لا يدخلها النسخ .

              [ ص: 346 ] وقال في قوله : والشعراء يتبعهم الغاوون إلى قوله : وأنهم يقولون ما لا يفعلون [ الشعراء : 224 - 226 ] : هو منسوخ بقوله : إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا [ الشعراء : 227 ] الآية .

              قال مكي : وقد ذكر عن ابن عباس في أشياء كثيرة في القرآن فيها حرف الاستثناء أنه قال : منسوخ .

              قال : وهو مجاز لا حقيقة ; لأن المستثنى مرتبط بالمستثنى منه بينه حرف الاستثناء أنه في بعض الأعيان الذين عمهم اللفظ الأول ، والناسخ [ ص: 347 ] منفصل عن المنسوخ رافع لحكمه ، وهو بغير حرف .

              هذا ما قال ، ومعنى ذلك أنه تخصيص للعموم قبله ولكنه أطلق عليه لفظ النسخ ، إذ لم يعتبر فيه الاصطلاح الخاص .

              وقال في قوله تعالى : لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها [ النور : 27 ] إنه منسوخ بقوله : ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة [ النور : 29 ] الآية .

              وليس من الناسخ والمنسوخ في شيء غير أن قوله : ليس عليكم جناح يثبت أن البيوت في الآية الأخرى إنما يراد بها المسكونة .

              وقال في قوله : انفروا خفافا وثقالا [ التوبة : 41 ] إنه منسوخ [ ص: 348 ] بقوله : وما كان المؤمنون لينفروا كافة [ التوبة : 122 ] والآيتان في معنيين ولكنه نبه على أن الحكم بعد غزوة تبوك أن لا يجب النفير على الجميع .

              وقال في قوله تعالى : قل الأنفال لله والرسول [ الأنفال : 1 ] منسوخ بقوله : واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه الآية [ الأنفال : 41 ] ، وإنما ذلك بيان لمبهم في قوله : لله والرسول

              وقال في قوله : وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء [ الأنعام : 69 ] إنه منسوخ بقوله : وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها [ النساء : 140 ] الآية ، وآية الأنعام خبر من الأخبار والأخبار [ ص: 349 ] لا تنسخ ولا تنسخ .

              وقال في قوله : وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه [ النساء : 8 ] [ ص: 350 ] الآية : إنه منسوخ بآية المواريث .

              وقال مثله الضحاك والسدي ، وعكرمة ، وقال الحسن منسوخ بالزكاة ، وقال ابن المسيب نسخه الميراث والوصية .

              والجمع بين الآيتين ممكن لاحتمال [ حمل ] الآية على الندب والمراد بأولي القربى من لا يرث بدليل قوله : وإذا حضر فقيد كما [ ص: 351 ] ترى الرزق بالحضور ، [ فدل أن ] المراد غير الوارثين ، وبين الحسن أن المراد الندب أيضا بدليل آية الوصية والميراث فهو من بيان المجمل والمبهم .

              وقال هو وابن مسعود في قوله : وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء [ البقرة : 284 ] : إنه منسوخ بقوله : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها [ البقرة : 286 ] ، مع أن الأخبار لا تنسخ ، وإنما المراد - والله أعلم - ما انطوت عليه النفوس من الأمور الكسبية التي هي في وسع الإنسان ، وبين ذلك قوله : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها [ البقرة : 286 ] [ ص: 352 ] بدليل أن ابن عباس فسر الآية بكتمان الشهادة ; إذ تقدم قوله : [ ص: 353 ] ولا تكتموا الشهادة [ البقرة : 283 ] ثم قال : وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله الآية [ البقرة : 284 ] فحصل أن ذلك من باب [ ص: 354 ] تخصيص العموم ، أو بيان المجمل .

              وقال في قوله : ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها [ النور : 31 ] : إنه منسوخ بقوله : والقواعد من النساء الآية [ النور : 60 ] وليس بنسخ إنما هو تخصيص لما تقدم من العموم .

              وعن أبي الدرداء ، وعبادة بن الصامت في قوله تعالى : وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم [ المائدة : 5 ] أنه ناسخ لقوله : ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه [ الأنعام : 121 ] ، فإن كان المراد أن طعام أهل الكتاب حلال ، وإن لم يذكر اسم الله عليه فهو تخصيص للعموم ، وإن كان المراد أن طعامهم حلال بشرط التسمية فهو أيضا من باب التخصيص ، لكن آية الأنعام هي آية العموم المخصوص في الوجه الأول ، وفي الثاني بالعكس .

              [ ص: 355 ] وقال عطاء في قوله تعالى : ومن يولهم يومئذ دبره [ الأنفال : 16 ] : إنه منسوخ بقوله : إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين [ الأنفال : 65 ] إلى آخر الآيتين ، وإنما هو تخصيص ، وبيان لقوله : ومن يولهم فكأنه على معنى : ومن يولهم وكانوا مثلي عدد المؤمنين ، فلا تعارض ولا نسخ بالإطلاق الأخير .

              وقال في قوله : وأحل لكم ما وراء ذلكم [ النساء : 24 ] : إنه منسوخ بالنهي عن نكاح المرأة على عمتها ، أو على خالتها ، وهذا من باب تخصيص العموم .

              [ ص: 356 ] وقال وهب بن منبه في قوله : ويستغفرون لمن في الأرض [ الشورى : 5 ] : نسختها الآية التي في غافر ويستغفرون للذين آمنوا [ غافر : 7 ] .

              وهذا معناه أن آية غافر مبينة لآية الشورى ; إذ هو خبر محض والأخبار لا نسخ فيها .

              وقال ابن النحاس : " هذا لا يقع فيها ناسخ ولا منسوخ ; لأنه خبر من الله ولكن يجوز أن يكون ، وهب بن منبه أراد أن هذه الآية على نسخة تلك الآية لا فرق بينهما يعني أنهما بمعنى واحد وإحداهما تبين الأخرى " .

              قال : " وكذا يجب أن يتأول للعلماء ولا يتأول عليهم الخطأ العظيم إذا كان لما قالوه وجه " .

              [ ص: 357 ] قال : والدليل على ما قلناه ما حدثناه أحمد بن محمد ، ثم أسند عن قتادة في قوله : ويستغفرون لمن في الأرض [ الشورى : 5 ] قال : للمؤمنين منهم .

              وعن عراك بن مالك وعمر بن عبد العزيز وابن شهاب أن قوله : والذين يكنزون الذهب والفضة الآية [ التوبة : 34 ] منسوخ بقوله : خذ من أموالهم صدقة [ التوبة : 103 ] ، وإنما هو بيان لما يسمى كنزا ، وأن المال إذا أديت زكاته لا يسمى كنزا ، وبقي ما لم يزك داخلا تحت التسمية ، فليس من النسخ في شيء .

              وقال قتادة في قوله : اتقوا الله حق تقاته [ آل عمران : 102 ] : إنه منسوخ بقوله : فاتقوا الله ما استطعتم [ التغابن : 16 ] ، وقاله الربيع بن أنس والسدي وابن زيد ، وهذا من الطراز المذكور ; لأن الآيتين مدنيتان ولم [ ص: 358 ] تنزلا إلا بعد تقرير أن الدين لا حرج فيه ، وأن التكليف بما لا يستطاع مرفوع فصار معنى قوله : اتقوا الله حق تقاته [ آل عمران : 102 ] فيما استطعتم ، وهو معنى قوله : فاتقوا الله ما استطعتم [ التغابن : 16 ] فإنما أرادوا بالنسخ أن إطلاق سورة آل عمران مقيد بسورة التغابن .

              وقال قتادة أيضا في قوله : والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء [ البقرة : 228 ] : إنه نسخ من ذلك التي لم يدخل بها بقوله : فما لكم عليهن من عدة تعتدونها [ الأحزاب : 49 ] والتي يئست من المحيض والتي لم تحض بعد والحامل بقوله : واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر إلى قوله : أن يضعن حملهن [ الطلاق : 4 ] .

              وقال عبد الملك بن حبيب في قوله : اعملوا ما شئتم [ فصلت : 40 ] [ ص: 359 ] وقوله : فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر [ الكهف : 29 ] ، وقوله : لمن شاء منكم أن يستقيم [ التكوير : 28 ] : إن ذلك منسوخ بقوله : وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين [ التكوير : 29 ] ، وهذه الآية إنما جاءت في معرض التهديد والوعيد ، وهو معنى لا يصح نسخه فالمراد أن إسناد المشيئة للعباد ليس على ظاهره ، بل هي مقيدة بمشيئة الله سبحانه .

              وقال في قوله : الأعراب أشد كفرا ونفاقا [ التوبة : 97 ] ، وقوله : ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما [ التوبة : 98 ] إنه منسوخ بقوله : ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر [ التوبة : 99 ] الآية ، وهذا من [ ص: 360 ] الأخبار التي لا يصح نسخها والمقصود أن عموم الأعراب مخصوص بمن كفر دون من آمن .

              وقال أبو عبيد ، وغيره إن قوله : ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون [ النور : 4 ] [ ص: 361 ] منسوخ بقوله : إلا الذين تابوا من بعد ذلك الآية [ النور : 5 ] .

              وقد تقدم لابن عباس مثله .

              وقيل في قوله : إن الله يغفر الذنوب جميعا [ الزمر : 53 ] منسوخ بقوله : إن الله لا يغفر أن يشرك به الآية [ النساء : 48 ] ، وقوله : ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم الآية [ النساء : 93 ] ، وهذا من باب تخصيص العموم لا من باب النسخ .

              وفي قوله : إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم [ الأنبياء : 98 ] [ ص: 362 ] إنه منسوخ بقوله : إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون [ الأنبياء : 101 ] ، وكذلك قوله تعالى : وإن منكم إلا واردها [ مريم : 71 ] منسوخ بها [ ص: 363 ] أيضا ، وهو إطلاق النسخ في الأخبار ، وهو غير جائز .

              قال مكي : " وأيضا فإن هذا لو نسخ لوجب زوال حكم دخول المعبودين من دون الله كلهم النار ; لأن النسخ إزالة الحكم الأول ، وحلول الثاني محله ولا يجوز زوال الحكم الأول في هذا بكليته إنما زال بعضه فهو تخصيص ، وبيان " .

              [ ص: 364 ] وفي قوله : ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات الآية [ النساء : 25 ] إنه منسوخ بقوله : ذلك لمن خشي العنت منكم [ النساء : 25 ] ، وإنما هو بيان لشرط نكاح الإماء المؤمنات .

              والأمثلة هنا كثيرة توضح لك أن مقصود المتقدمين بإطلاق لفظ النسخ بيان ما في تلقي الأحكام من مجرد ظاهره إشكال وإيهام لمعنى غير مقصود للشارع فهو أعم من إطلاق الأصوليين فليفهم هذا ، وبالله التوفيق .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية