الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            باب ما جاء في نذر المباح والمعصية وما أخرج مخرج اليمين

                                                                                                                                            3845 - ( عن ابن عباس قال : { بينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذ هو برجل قائم ، فسأل عنه فقالوا : أبو إسرائيل نذر أن يقوم في الشمس ، ولا يقعد ، ولا يستظل ، ولا يتكلم ، وأن يصوم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : مروه فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه } رواه البخاري وابن ماجه وأبو داود ) . [ ص: 279 ]

                                                                                                                                            3846 - ( وعن ثابت بن الضحاك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { ليس على الرجل نذر فيما لا يملك } متفق عليه ) .

                                                                                                                                            3847 - ( وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لا نذر إلا فيما ابتغي به وجه الله تعالى } رواه أحمد وأبو داود .

                                                                                                                                            وفي رواية : { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى أعرابي قائما في الشمس وهو يخطب ، فقال : ما شأنك ؟ قال : نذرت يا رسول الله أن لا أزال في الشمس حتى تفرغ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليس هذا نذرا ، إنما النذر ما ابتغي به وجه الله } رواه أحمد ) .

                                                                                                                                            3848 - ( وعن سعيد بن المسيب { أن أخوين من الأنصار كان بينهما ميراث ، فسأل أحدهما صاحبه القسمة ، فقال : إن عدت تسألني القسمة فكل مالي في رتاج الكعبة ، فقال له عمر : إن الكعبة غنية عن مالك كفر عن يمينك وكلم أخاك ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا يمين عليك ، ولا نذر في معصية الرب ، ولا في قطيعة الرحم ، ولا فيما لا تملك } رواه أبو داود ) .

                                                                                                                                            3849 - ( وعن ثابت بن الضحاك { أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إني نذرت أن أنحر إبلا ببوانة ، فقال : أكان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد ؟ قالوا : لا ، قال : فهل كان فيها عيد من أعيادهم ؟ قالوا : لا ، قال : أوف بنذرك فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله ، ولا فيما لا يملك ابن آدم } رواه أبو داود ) .

                                                                                                                                            3850 - ( وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لا نذر في معصية ، وكفارته كفارة يمين } رواه الخمسة واحتج به أحمد وإسحاق ) .

                                                                                                                                            3851 - ( وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { من نذر نذرا في معصية فكفارته كفارة يمين } رواه أبو داود ) . [ ص: 280 ]

                                                                                                                                            3852 - ( وعن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { كفارة النذر كفارة يمين } رواه أحمد ومسلم )

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            حديث عمرو بن شعيب أخرجه أيضا البيهقي وأورده الحافظ في التلخيص وسكت عنه . وقد أخرجه بلفظ أحمد الطبراني قال في مجمع الزوائد : فيه عبد الله بن نافع المدني وهو ضعيف ولم يكن في إسناد أبي داود لأنه أخرجه عن أحمد بن عبدة الضبي عن المغيرة بن عبد الرحمن عن أبيه عبد الرحمن عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وحديث سعيد بن المسيب حديث صالح سكت عنه أبو داود والحافظ وهو من طريق عمرو بن شعيب ، ولكن سعيد بن المسيب لم يسمع من عمر بن الخطاب فهو منقطع وروي نحوه عن عائشة " أنها سألت عن رجل جعل ماله في رتاج الكعبة إن كلم ذا قرابة ، فقالت : يكفر عن اليمين " أخرجه مالك والبيهقي بسند صحيح وصححه ابن السكن وحديث ثابت بن الضحاك أخرجه أيضا الطبراني وصحح الحافظ إسناده .

                                                                                                                                            وأخرج نحوه أبو داود من وجه آخر عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا ، ورواه ابن ماجه من حديث ابن عباس ، ورواه أحمد في مسنده من حديث عمرو بن شعيب عن ابنة كردم عن أبيها بنحوه .

                                                                                                                                            وفي لفظ لابن ماجه عن ميمونة بنت كردم وحديث عائشة قال الترمذي بعد إخراجه : لا يصح لأن الزهري لم يسمع هذا الحديث من أبي سلمة وكذلك قال غيره ، قالوا : وإنما سمعه من سليمان بن أرقم وسليمان متروك .

                                                                                                                                            وقال أحمد : ليس بشيء ولا يساوي فلسا . وقال البخاري : تركوه وتكلم فيه جماعة أيضا منهم عمرو بن علي وأبو داود وأبو زرعة والنسائي وابن حبان والدارقطني وقال الخطابي : لو صح هذا الحديث لكان القول به واجبا والمصير إليه لازما إلا أن أهل المعرفة بالحديث زعموا أنه حديث مقلوب وهم فيه سليمان بن الأرقم ، ورواه النسائي والحاكم والبيهقي من حديث عمران بن حصين ومداره على محمد بن الزبير الحنظلي عن أبيه عنه ومحمد ليس بالقوي وقد اختلف عليه فيه . ورواه ابن المبارك عن عبد الوارث عن أبيه أن رجلا حدثه أنه سأل عمران بن الحصين فذكره ، وفيه رجل مجهول ورواه أحمد وأصحاب السنن والبيهقي من رواية الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة ، قال الحافظ : وإسناده صحيح إلا أنه معلول بأنه منقطع ، وذلك لأن الزهري لم يروه عن أبي سلمة .

                                                                                                                                            ورواه ابن ماجه من حديث سليمان بن بلال عن حرشي بن عتبة ومحمد بن أبي عتيق عن الزهري عن سليمان بن أرقم عن يحيى بن أبي كثير عن محمد بن الزبير الحنظلي عن أبيه عن عمران [ ص: 281 ] فرجع إلى الرواية الأولى ورواه عبد الرزاق عن معمر عن يحيى بن أبي كثير عن رجل من بني حنيفة وأبي سلمة كلاهما عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو مع كونه مرسلا فالحنفي هو محمد بن الزبير المتقدم ، قاله الحاكم . وقال : إن قوله من بني حنيفة تصحيف ، وإنما هو من بني حنظلة . وله طريق أخرى عند الدارقطني من رواية غالب بن عبد الله الجزري عن عطاء عن عائشة مرفوعا بلفظ { من جعل عليه نذرا في معصية فكفارته كفارة يمين } وغالب متروك وله طريق أخرى عند أبي داود من حديث كريب عن ابن عباس وإسنادها حسن فيها طلحة بن يحيى وهو مختلف فيه .

                                                                                                                                            وقال أبو داود موقوفا : يعني وهو أصح . وقال النووي في الروضة : حديث { لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين } ضعيف باتفاق المحدثين قال الحافظ : قلت : قد صححه الطحاوي وأبو علي بن السكن فأين الاتفاق . وحديث ابن عباس قد تقدمت الإشارة إليه أنه من طريق كريب عنه ولفظه في سنن أبي داود عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { من نذر نذرا لم يسمه فكفارته كفارة يمين ، ومن نذر نذرا في معصية فكفارته كفارة يمين ، ومن نذر نذرا لا يطيقه فكفارته كفارة يمين ، ومن نذر نذرا أطاقه فليف به } وسيأتي ، وقد تقدم أنه موقوف على ابن عباس وأن الموقوف أصح وأخرجه ابن ماجه وفي إسناد ابن ماجه من لا يعتمد عليه ، وليس فيه " من نذر نذرا في معصية " قوله : ( أبو إسرائيل ) قال الخطيب : هو رجل من قريش ولا يشاركه أحد من الصحابة في كنيته . واختلف في اسمه ، فقيل قشير بقاف وشين معجمة مصغرا . وقيل بسير بمهملة مصغرا .

                                                                                                                                            وقيل قيصر باسم ملك الروم . وقيل بالسين المهملة بدل الصاد . وقد جزم ابن الأثير وغيره بأنه من الصحابة

                                                                                                                                            وفيه دليل على أن كل شيء يتأذى به الإنسان مما لم يرد بمشروعيته كتاب ولا سنة كالمشي حافيا والجلوس في الشمس ليس من طاعة الله تعالى فلا ينعقد النذر به ، فإنه صلى الله عليه وسلم أمر أبا إسرائيل في هذا الحديث بإتمام الصوم دون غيره وهو محمول على أنه علم أنه لا يشق عليه . قال القرطبي : في قصة أبي إسرائيل هذا أعظم حجة للجمهور في عدم وجوب الكفارة على من نذر معصية أو ما لا طاعة فيه

                                                                                                                                            قال مالك : لم أسمع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره بكفارة قوله : { ليس على الرجل نذر فيما لا يملك } فيه دليل على أن من نذر بما لا يملك لا ينفذ نذره ، وكذلك من نذر بمعصية كما في بقية أحاديث الباب . واختلف في النذر بمعصية هل تجب فيه الكفارة أم لا ؟ فقال الجمهور : لا . وعن أحمد والثوري وإسحاق وبعض الشافعية والحنفية نعم

                                                                                                                                            ونقل الترمذي اختلاف الصحابة في ذلك ، واتفقوا على تحريم النذر في المعصية .

                                                                                                                                            واختلافهم إنما هو في وجوب الكفارة . واحتج من أوجبها بحديث عائشة المذكور في الباب وما ورد في معناه

                                                                                                                                            وأجيب بأن ذلك لا ينتهض للاحتجاج لما سبق [ ص: 282 ] من المقال واحتج أيضا بما أخرجه مسلم من حديث عقبة بن عامر بلفظ { كفارة النذر كفارة اليمين } لأن عمومه يشمل نذر المعصية وأجيب بأن فيه زيادة تمنع العموم وهي أن الترمذي وابن ماجه أخرجا حديث عقبة بلفظ { كفارة النذر إذا لم يسم كفارة يمين } هذا لفظ الترمذي ، ولفظ ابن ماجه { من نذر نذرا لم يسمه } .

                                                                                                                                            وحديث ابن عباس المذكور في الباب أيضا قد سبق ما فيه من المقال

                                                                                                                                            واستدل بأحاديث الباب على أنه يصح النذر في المباح لأنه لما نفى النذر في المعصية بقي ما عداه ثابتا ، ويدل على أن النذر لا ينعقد في المباح الحديث المذكور في أول الباب عن ابن عباس ، والحديث الذي فيه { إنما النذر ما يبتغى به وجه الله }

                                                                                                                                            ومن جملة ما استدل به على أنه يلزم الوفاء بالنذر المباح قصة التي نذرت الضرب بالدف . وأجاب البيهقي بأنه يمكن أن : يقال إن من قسم المباح ما قد يصير بالقصد مندوبا كالنوم في القائلة للتقوي على قيام الليل وأكلة السحر للتقوي على صيام النهار ، فيمكن أن يقال إن إظهار الفرح بعود النبي صلى الله عليه وسلم سالما معنى مقصود يحصل به الثواب قوله : ( في رتاج الكعبة ) بمهملة فمثناة فوقية فجيم بعدها ألف هو في اللغة الباب ، وكنى به هنا عن الكعبة نفسها قوله : ( ببوانة ) بضم الموحدة وبعد الألف نون

                                                                                                                                            قال في التلخيص : موضع بين الشام وديار بكر ، قاله أبو عبيدة ، وقال البغوي : أسفل مكة دون يلملم . وقال المنذري : هضبة من وراء ينبع ومثله في النهاية ، وسيأتي الكلام على حديث ثابت بن الضحاك .




                                                                                                                                            الخدمات العلمية