الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      بدء مشروعيته :

                                                                                                                                                                                                                                      اختلف في بدء المشروعية ، والصحيح أنه بدئ بعد الهجرة ، وجاءت نصوص لكنها ضعيفة : أنه شرع ليلة الإسراء أو بمكة .

                                                                                                                                                                                                                                      منها عن علي - رضي الله عنه - عند البزار : أنه شرع مع الصلاة .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 123 ] ومنها عن ابن عباس عند ابن حبان أنه شرع بمكة عن أول الصلاة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن حجر : لا يصح شيء من ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      أما مشروعيته بعد الهجرة ، وفي المدينة ففيها نصوص عديدة صحيحة تبين بدأه وكيفيته .

                                                                                                                                                                                                                                      منها حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - في الصحيحين وغيرهما قال : " كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحينون الصلاة وليس ينادي بها أحد ، فتكلموا يوما في ذلك ، فقال بعضهم : اتخذوا ناقوسا مثل ناقوس النصارى ، وقال بعضهم قرنا مثل قرن اليهود ، فقال عمر : أولا تبعثون رجلا ينادي بالصلاة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا بلال قم فناد بالصلاة " ، وفي الموطأ لمالك رحمه الله : أنه - صلى الله عليه وسلم - كان قد أراد أن يتخذ خشبتين يضرب بهما ؛ ليجتمع الناس للصلاة ، فأري عبد الله بن زيد الأنصاري خشبتين في النوم فقال : إن هاتين لنحو مما يريد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : ألا تؤذنون للصلاة ؟ فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين استيقظ فذكر له ذلك فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالأذان " .

                                                                                                                                                                                                                                      وبعض الروايات الأخرى عن غير ابن عمر وعند غير الشيخين بألفاظ أخرى ، وصور مختلفة منها قالوا : " انصب راية فإذا رآها الناس أذن بعضهم بعضا أي : أعلمه عند حضور الصلاة ، فلم يعجبه ذلك فذكر له القنع ، وهو الشبور لليهود فلم يعجبه ، فقال هذا من أمر اليهود " .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي رواية أنس " أن ينوروا نارا فلم يعجبه شيء من ذلك كله " .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي حديث عبد الله بن زيد : لما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالناقوس يعمل ؛ ليضرب به للناس لجمع الصلوات طاف بي وأنا نائم رجل يحمل ناقوسا في يده ، فقلت : يا عبد الله أتبيع الناقوس ؟ قال : وما تصنع به ؟ قلت : ندعو به إلى الصلاة ، قال : أفلا أدلك على ما هو خير من ذلك ، فقلت : بلى ، فقال : تقول : الله أكبر الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن محمدا رسول الله ، أشهد أن محمدا رسول الله ، حي على الصلاة ، حي على الصلاة ، حي على الفلاح ، حي على الفلاح ، الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله " .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم استأخر عني غير بعيد ثم قال : تقول إذا أقمت للصلاة : الله أكبر الله أكبر ، أشهد [ ص: 124 ] أن لا إله إلا الله ، أشهد أن محمدا رسول الله ، حي على الصلاة ، حي على الفلاح ، قد قامت الصلاة ، قد قامت الصلاة ، الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله .

                                                                                                                                                                                                                                      فلما أصبحت أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته بما رأيت فقال : " إنها لرؤيا حق إن شاء الله ، فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت فليؤذن به ، فإنه أندى صوتا منك " فقمت مع بلال فجعلت ألقيه عليه ويؤذن به ، قال : فسمع ذلك عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وهو في بيته فخرج يجر رداءه ويقول :

                                                                                                                                                                                                                                      والذي بعثك بالحق يا رسول الله لقد رأيت ما رأى ، فقال صلى الله عليه وسلم : " فلله الحمد
                                                                                                                                                                                                                                      " رواه أبو داود .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي رواية له ، فقال : " إني لبين نائم ويقظان إذ أتاني آت فأراني الأذان " .

                                                                                                                                                                                                                                      فتبين من هذا كله أن الصحيح في مشروعية الأذان أنه كان بعد الهجرة ، وفي المدينة المنورة .

                                                                                                                                                                                                                                      وهنا سؤال حول مشروعية الأذان ، قال بعض الناس : كيف يترك أمر الأذان وهو بهذه الأهمية من الصلاة فيكون أمر مشروعيته رؤيا يراها بعض الأصحاب ، وطعن في سند الحديث واستدل بحديث ابن عمر في الصحيحين وغيرهما من قوله صلى الله عليه وسلم : " قم يا بلال فناد بالصلاة " والجواب عن هذا من عدة وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                      منها : سند حديث عبد الله صحيح ، وقد ناقشه الشوكاني رحمه الله ، وذكر تصحيحه ومن صححه ويشهد لصحته ما قدمناه من رواية الموطأ بإرادة اتخاذ خشبتين ، فأري عبد الله بن زيد خشبتين الحديث ، وكذلك في الصحيحين إثبات التشاور فيما يعلم به حين الصلاة .

                                                                                                                                                                                                                                      ومنها : أنه لا يتعارض مع حديث ابن عمر ؛ لأن حديث ابن عمر لم يذكر ألفاظ النداء فيكون الجمع بينهما ، إما أن بلالا كان ينادي بغير هذه الصيغة ، ثم رأى عبد الله الأذان فعلمه بلالا .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد يشهد لهذا الوجه ما جاء عن أبي ليلى قال : أحيلت الصلاة ثلاثة أحوال ، وحدثنا أصحابنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لقد أعجبني أن تكون صلاة المسلمين واحدة ، حتى لقد هممت أن أبث رجالا في الدور ينادون الناس بحين الصلاة ، وحتى هممت أن آمر [ ص: 125 ] رجالا يقومون على الآطام ينادون المسلمين حتى نقسوا أو كادوا أن ينقسوا " ، قال : فجاء رجل من الأنصار فقال : يا رسول الله إني لما رجعت لما رأيت من اهتمامك رأيت رجلا كأن عليه ثوبين أخضرين فقام على المسجد فأذن ، ثم قعد قعدة ، ثم قام فقال مثلها إلا أنه يقول : قد قامت الصلاة ، ولولا أن يقول الناس لقلت إني كنت يقظان غير نائم . فقال صلى الله عليه وسلم : " لقد أراك الله خيرا فمر بلالا فليؤذن ، فقال عمر : أما إني قد رأيت مثل الذي رأى ولكني لما سبقت استحييت " . لأبي داود أيضا .

                                                                                                                                                                                                                                      ففيه أنه - صلى الله عليه وسلم - كان قد هم أن يبث رجالا في الدور ، وعلى الآطام ينادون للصلاة ، فيكون نداء بلال أولا من هذا القبيل دون تعيين ألفاظ ، وإما أن يكون نداء بلال الوارد في الصحيح بألفاظ الأذان ، الواردة في حديث عبد الله بعد أن رأى ما رآه وأمره - صلى الله عليه وسلم - أن يعلمه بلالا فنادى به ، ولا تعارض في ذلك كما ترى .

                                                                                                                                                                                                                                      ومنها أيضا : أن رؤيا عبد الله للأذان لا تجعله مشروعا له من عنده ولا متوقفا عليه ، لأنه جاء في الرؤيا الصالحة أنها جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة .

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا النظم لألفاظ الأذان لا يكون إلا من القسم فهي بعيدة عن الوساوس ، والهواجس لما فيها من إعلان العقيدة وإرغام الشيطان كما في الحديث : " إن الشيطان إذا سمع النداء أدبر " إلخ .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم إنه - صلى الله عليه وسلم - لما سمعها أقرها وقال : " إنها لرؤيا حق " ، أو لقد أراك الله حقا ، فكانت سنة تقرير كما يقرر بعض الناس على بعض الأفعال .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم جاء بعد ذلك تعليمه - صلى الله عليه وسلم - لأبي محذورة فصار سنة ثابتة ، وكان يتوجه السؤال لو أنه لم يبلغه - صلى الله عليه وسلم - وعملوا به بمجرد الرؤيا ، ولكن وقد بلغه وأقره فلا سؤال إذا .

                                                                                                                                                                                                                                      ومنها : أن في بعض الروايات أن الوحي قد جاءه به ، ولما أخبره عمر قال له : " سبقك بذلك الوحي " ذكر في مراسيل أبي داود .

                                                                                                                                                                                                                                      وذكر عن ابن العربي بسط الكلام إثبات الحكم بالرؤيا ذكرهما المعلق على بذل المجهود .

                                                                                                                                                                                                                                      ومنها ما قيل : ترك مجيء بيان وتعليم الأذان إلى أن رآه عبد الله ورواه عمر رضي الله عنهما لأمرين ، ذكرهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معلنا مع ذكر الله فيكون مجيئه عن طريقهما أولى [ ص: 126 ] وأكرم لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أن يأتيهم من طريقه هو حتى لا يكون عناية من يدعوهم لإطرائه . وهذا وإن كان متوجها إلا أن فيه نظرا ؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لو جاءهم بأعظم من ذلك لما كان موضع تساؤل .

                                                                                                                                                                                                                                      من مجموع ما تقدم يكون أصل مشروعية الأذان سنة ثابتة ، إما أنه كان قد هم أن يبعث رجالا في البيوت ينادوه ، وإما لأنه أقر ما رأى عبد الله فيكون أصل المشروعية منه صلى الله عليه وسلم ، والتقرير منه على الألفاظ التي رآها عبد الله .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية