الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الوظيفة الثانية : أن يقلل علائقه من الاشتغال بالدنيا ويبعد عن الأهل والوطن فإن العلائق شاغلة وصارفة ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ومهما توزعت الفكرة قصرت عن درك الحقائق ولذلك قيل العلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيك كلك فإذا أعطيته كلك فأنت من إعطائه إياك بعضه على خطر والفكرة المتوزعة على أمور متفرقة كجدول تفرق ماؤه فنشفت الأرض بعضه واختطف الهواء بعضه فلا يبقى منه ما يجتمع ويبلغ المزدرع .

التالي السابق


(الوظيفة الثانية: أن يفرغ) المتعلم بعد تقديم طهارة النفس (علائقه) جمع علاقة بكسر العين، وفي بعض النسخ: أن يقلل علائقه (من أشغال الدنيا) جمع شغل بالضم وهو ما يشغله، وفي بعض النسخ: من اشتغال الدنيا أي: من الاشتغال وهو صرف نفائس الأوقات في أمورها، وعلى النسخة الأولى أمر بتفريغه للعلائق الدنيوية بحيث لا يشغله منها شيء، وهذا أوفق للمتجرد وعلى النسخة الثانية أمر بقطع الأطماع في أمورها فيقلل منها على التدريج وهذا أوفق للمتزوج (و) على كل حال لا يتمكن من ذلك كل منهما حتى (يبعد عن الأهل) والأقارب (والوطن) والدار والرباع ويهاجر عنهم وعنها حتى يثبت له أجر المهاجرة وفي ذلك قال بعض المقادسة:

ما للمعيل وللمعالي إنما يسعى إليهن الفريد الفارد

(فإن العلائق) وهي على قسمين: ظاهرية وباطنية وهي بأنواعها (شاغلة وصارفة) عن تحصيل المطلوب (و) قد قال الله تعالى في كتابه العزيز في سورة الأحزاب ( ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ) أصل [ ص: 311 ] الجوف الخلاء ثم استعير لما يقبل الشغل والفراغ، فقيل: جوف الدار لداخلها وباطنها، وجوف الإنسان بطنه، واختلف في سبب نزول هذه الآية فقال الحافظ السيوطي في الدر المنثور:، وأخرج أحمد والترمذي وحسنه، وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم، وصححه وابن مردويه، والضياء في المختارة عن ابن عباس قال: قام النبي -صلى الله عليه وسلم- يوما يصلي فخطر خطرة فقال: المنافقون الذين يصلون معه: ألا ترى أن له قلبين قلبا معكم وقلبا معهم، فأنزل الله هذه الآية، وأخرج ابن أبي حاتم من طريق حصين عن سعيد بن جبير، ومجاهد وعكرمة، قالوا: كان رجل يدعى ذا القلبين فأنزل الله تعالى هذه الآية .

وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس، قال: كان رجل من قريش يسمى من دهائه ذا القلبين، فأنزل الله هذا في شأنه.

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن قال: كان رجل على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسمى ذا القلبين كان يقول نفسي تأمرني ونفسي تنهاني، فأنزل الله فيه .

وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وابن جرير، وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد، قال: إن رجلا من بني فهر قال: إن في جوفي قلبين أعقل بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد -صلى الله عليه وسلم-، فنزلت .

وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي، أنها نزلت في رجل من قريش من بني جمح، يقال له: جميل بن معمر.

وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلاة فنسي فيها، فخطرت منه كلمة فسمعها المنافقون وأكثروا فقالوا: إن له قلبين ألم تسمعوا إلى قوله وكلامه في الصلاة، إن له قلبا معكم وقلبا مع أصحابه، فنزلت: يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين إلى قوله: ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه . وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن الزهري قال: بلغنا أن ذلك كان في زيد بن حارثة، ضرب له مثلا تقول ابن رجل آخر ابنك، ونص الذريعة .

الثاني: أن يقلل من الأشغال الدنيوية ليتوفر فراغه عن العلوم الحقيقية وقد قال الشاعر:

فما صاحب التطواف يعمر منهلا وربعا إذا لم يخل ربعا ومنهلا

وقد قال الله تعالى: ما جعل الله لرجل ، الآية. (ومهما توزعت) أي: تقسمت (الفكرة) المستجمعة في نفسها وهي القوة المطرقة للعلم (قصر عن درك الحقائق) العلمية وفهمها واشتغال البال بالعلائق من أعظم الموانع لطلب العلم (ولذلك قيل) فيما مضى (العلم لا يعطيك بعضه) أي: بعضا من حقائقه وثمراته (حتى تعطيه كلك) أي: تتوجه إلى تحصيله بكليتك غير ناظر إلى أهل ووطن ولا مال وجاه مع جوع وعري وغربة (فإذا أعطيته كلك) أي: صرفت إليه همتك الكلية (فأنت من إعطائه إياك بعضه على خطر) إما أن تحصله أولا فإذا لم تعطه كلك لم تظفر منه بشيء أبدا، أورده صاحب الذريعة هكذا قال: وكأنما عنى من قال:

خدم العلي فخدمته وهي التي لا تخدم الأقوام ما لم تخدم

(والفكرة المتوزعة) أي: المنقسمة (على أمور متفرقة) إنما مثلها عند الاعتبار (كجدول) وهو نهر صغير يسقي الحائط (تفرق ماؤه) في أماكن شتى وليس بمجتمع في موضع واحد (فتنشف الأرض بعضه) لقلته (واختطف الهواء) من الجو (بعضه ولا يبقى منه ما يجتمع) مع بعضه (ويبلغ المزارع) المطلوب سقيها ونص الذريعة: والفكرة متى توزعت تكون كجدول يفرق ماؤه فيشفه الحر وتشربه الأرض فلا يقع به نفع، وإن جمع بلغ المرزوع فانتفع به. اهـ .

ولذا كرهوا للمتعلم من الاشتغال في درسين في علمين مستقلين; لئلا تتوزع الفكرة ومن الانتقال من فن إلى فن آخر قبل استكمال الأول كما يأتي بيانه .




الخدمات العلمية