الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب )

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى :( وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب )

                                                                                                                                                                                                                                            اعلم أن هذا من جملة النعم التي خص أهل بدر بها ، وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : العامل في " إذ " فيه وجوه : قيل : تقديره اذكر إذ زين لهم ، وقيل : هو عطف على ما تقدم من تذكير النعم ، وتقديره : واذكروا إذ يريكموهم وإذ زين ، وقيل : هو عطف على قوله : خرجوا بطرا ورئاء [ ص: 140 ] الناس ، وتقديره : لا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : في كيفية هذا التزيين وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن الشيطان زين بوسوسته من غير أن يتحول في صورة الإنسان ، وهو قول الحسن والأصم .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أنه ظهر في صورة الإنسان ، قالوا : إن المشركين حين أرادوا المسير إلى بدر خافوا من بني بكر بن كنانة ؛ لأنهم كانوا قتلوا منهم واحدا ، فلم يأمنوا أن يأتوهم من ورائهم ، فتصور لهم إبليس بصورة سراقة بن مالك بن جعشم وهو من بني بكر بن كنانة وكان من أشرافهم في جند من الشياطين ، ومعه راية ، وقال : لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم مجيركم من بني كنانة ، فلما رأى إبليس نزول الملائكة نكص على عقبيه ، وقيل : كانت يده في يد الحارث بن هشام ، فلما نكص قال له الحارث : أتخذلنا في هذه الحال ؟ فقال : إني أرى ما لا ترون ودفع في صدر الحارث وانهزموا ، وفي هذه القصة سؤالات :

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الأول : ما الفائدة في تغيير صورة إبليس إلى صورة سراقة ؟

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب : فيه معجزة عظيمة للرسول عليه السلام ؛ وذلك لأن كفار قريش لما رجعوا إلى مكة قالوا : هزم الناس سراقة ، فبلغ ذلك سراقة فقال : والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتكم ، فعند ذلك تبين للقوم أن ذلك الشخص ما كان سراقة بل كان شيطانا .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قيل : فإذا حضر إبليس لمحاربة المؤمنين ، ومعلوم أنه في غاية القوة ، فلم لم يهزموا جيوش المسلمين ؟

                                                                                                                                                                                                                                            قلنا : لأنه رأى في جيش المسلمين جبريل مع ألف من الملائكة ، فلهذا السبب خاف وفر .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قيل : فعلى هذا الطريق وجب أن ينهزم جميع جيوش المسلمين ؛ لأنه يتشبه بصورة البشر ويحضر ويعين جمع الكفار ويهزم جموع المسلمين ، والحاصل : أنه إن قدر على هذا المعنى فلم لا يفعل ذلك في سائر وقائع المسلمين ؟ وإن لم يقدر عليه فكيف أضفتم إليه هذا العمل في واقعة بدر ؟

                                                                                                                                                                                                                                            الجواب : لعله تعالى إنما غير صورته إلى صورة البشر في تلك الواقعة ، أما في سائر الوقائع فلا يفعل ذلك التغيير .

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الثاني : أنه تعالى لما غير صورته إلى صورة البشر فما بقي شيطانا بل صار بشرا .

                                                                                                                                                                                                                                            الجواب : أن الإنسان إنما كان إنسانا بجوهر نفسه الناطقة ، ونفوس الشياطين مخالفة لنفوس البشر فلم يلزم من تغيير الصورة تغيير الحقيقة ، وهذا الباب أحد الدلائل السمعية على أن الإنسان ليس إنسانا بحسب بنيته الظاهرة وصورته المخصوصة .

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الثالث : ما معنى قول الشيطان( لا غالب لكم اليوم من الناس ) وما الفائدة في هذا الكلام مع أنهم كانوا كثيرين غالبين ؟

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب : أنهم وإن كانوا كثيرين في العدد إلا أنهم كانوا يشاهدون أن دولة محمد عليه الصلاة والسلام كل يوم في الترقي والتزايد ؛ ولأن محمدا كلما أخبر عن شيء فقد وقع فكانوا لهذا السبب خائفين جدا من قوم محمد صلى الله عليه وسلم ، فذكر إبليس هذا الكلام إزالة للخوف عن قلوبهم ، ويحتمل أن يكون المراد أنه كان يؤمنهم من شر بني بكر بن كنانة خصوصا وقد تصور بصورة زعيم منهم ، وقال :( وإني جار لكم ) والمعنى : إني إذا كنت وقومي ظهيرا لكم فلا يغلبكم أحد من الناس ومعنى الجار ههنا : الدافع عن صاحبه أنواع الضرر كما [ ص: 141 ] يدفع الجار عن جاره ، والعرب تقول : أنا جار لك من فلان أي حافظ لك من مضرته فلا يصل إليك مكروه منه .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى :( فلما تراءت الفئتان ) أي التقى الجمعان بحيث رأت كل واحدة الأخرى نكص على عقبيه ، والنكوص الإحجام عن الشيء ، والمعنى : رجع ، وقال : إني أرى ما لا ترون ، وفيه وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنه روحاني ، فرأى الملائكة فخافهم ، قيل : رأى جبريل يمشي بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام ، وقيل : رأى ألفا من الملائكة مردفين .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أنه رأى أثر النصرة والظفر في حق النبي عليه الصلاة والسلام ، فعلم أنه لو وقف لنزلت عليه بلية .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال :( إني أخاف الله ) قال قتادة : صدق في قوله :( إني أرى ما لا ترون ) وكذب في قوله :( إني أخاف الله ) وقيل : لما رأى الملائكة ينزلون من السماء خاف أن يكون الوقت الذي أنظر إليه قد حضر فقال ما قال إشفاقا على نفسه .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله :( والله شديد العقاب ) فيجوز أن يكون من بقية كلام إبليس ، ويجوز أن ينقطع كلامه عند قوله : أخاف الله ، ثم قال تعالى بعده :( والله شديد العقاب ) .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية