الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 103 ] ( بسم الله الرحمن الرحيم )

                          ( الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين )

                          ( الم ) هو وأمثاله أسماء للسور المبتدأة به ، ولا يضر وضع الاسم الواحد كـ ( الم ) لعدة سور ؛ لأنه من المشترك الذي يعين معناه اتصاله بمسماه ، وحكمة التسمية والاختلاف في ( الم ) و ( المص ) نفوض الأمر إلى المسمي سبحانه وتعالى ( ( ويسعنا في ذلك ما وسع صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتابعيهم ، وليس من الدين في شيء أن يتنطع متنطع فيخترع ما يشاء من العلل التي قلما يسلم مخترعها من الزلل ) ) .

                          هذا ملخص ما قاله شيخنا الأستاذ الإمام ، وأقول الآن :

                          أولا - إن هذه الحروف تقرأ مقطعة بذكر أسمائها لا مسمياتها ، فنقول : ألف ، لام ، ميم ، ساكنة الأواخر ؛ لأنها غير داخلة في تركيب الكلام فتعرب بالحركات .

                          ثانيا - إن عدم إعرابها يرجح أن حكمة افتتاح بعض السور المخصوصة بها للتنبيه لما يأتي بعدها مباشرة من وصف القرآن والإشارة إلى إعجازه ؛ لأن المكي منها كان يتلى على المشركين للدعوة إلى الإسلام ، ومثل هذه السورة وما بعدها لدعوة أهل الكتاب إليه وإقامة الحجج عليهم به ، وسيأتي توضيح ذلك بالتفصيل في تفسير أول سورة ( المص - الأعراف ) .

                          ثالثا - اقتصر على جعل حكمتها الإشارة إلى إعجاز القرآن بعض المحققين من علماء اللغة وفنونها : كالفراء ، وقطرب ، والمبرد ، والزمخشري ، وبعض علماء الحديث : كشيخ الإسلام أحمد تقي الدين بن تيمية ، والحافظ المزي ، وأطال الزمخشري في بيانه وتوجيهه بما يراجع في كشافه ، وفي تفسير البيضاوي وغيره .

                          رابعا - إن أضعف ما قيل في هذه الحروف وأسخفه أن المراد بها الإشارة بأعدادها في حساب الجمل إلى مدة هذه الأمة أو ما يشابه ذلك ، وروى ابن إسحاق حديثا في ذلك عن بعض [ ص: 104 ] اليهود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ضعيف من رواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس عن جابر بن عبد الله .

                          خامسا - يقرب من هذا ما عني به بعض الشيعة من حذف المكرر من هذه الحروف وصياغة جمل مما بقي منها في مدح علي المرتضى - كرم الله وجهه - أو تفضيله وترجيح خلافته ، وقوبلوا بجمل أخرى مثلها تنقض ذلك كما وضحناه في مقالاتنا ( المصلح والمقلد ) .

                          سادسا - إنه لا يزال يوجد في الناس - حتى علماء التاريخ واللغات منهم - من يرى أن في هذه الحروف رموزا إلى بعض الحقائق الدينية والتاريخية ستظهره الأيام .

                          ( ذلك الكتاب ) الكتاب بمعنى المكتوب : وهو اسم جنس لما يكتب ، والمراد بالكتاب هذه الرقوم والنقوش ذات المعاني ، والإشارة تفيد التعيين الشخصي أو النوعي . وليس المراد هنا نوعا من أنواع الكتب ، بل المراد كتاب معروف معهود للنبي - صلى الله عليه وسلم - بوصفه ، وذلك العهد مبني على صدق الوعد من الله بأنه يؤيده بكتاب ( تام كامل كافل لطلاب الحق بالهداية والإرشاد في جميع شئون المعاش والمعاد ) فأشار بذلك إليه ، ولا يضر أنه لم يكن موجودا ( كله وقت نزول أمثال هذه الإشارة ، فقد يكفي في صحتها وجود البعض ، وقد كان نزل من القرآن جملة عظيمة قبل نزول أول هذه السورة وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بكتابتها فكتبت وحفظت ، فالإشارة إليها إشارة إليه ) بل يكفي في صحة الإشارة أن يشار إلى سورة البقرة نفسها ؛ لأنه يصح فيها وصف ( هدى للمتقين ) والأول أشبه ، والإشارة إلى الكتاب كله عند نزول بعضه إشارة إلى أن الله تعالى منجز وعده للنبي - صلى الله عليه وسلم - بإكمال الكتاب كله .

                          ومن حكمة الإشارة إليه بهذا الكتاب ( أي المكتوب المرقوم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بكتابته دون غيره فهو الكتاب وحده ، ولا يضر أنه عند النزول لم يكن مكتوبا بالفعل ، لأنك تقول : أنا أملي كتابا ، أو هلم أمل عليك كتابا ، والإشارة البعيدة بالكاف يراد بها بعد مرتبته في الكمال ، وعلوه عن متناول قريحة شاعر أو مقول خطيب قوال ، والبعد والقرب في الخطاب الإلهي إنما بالنسبة إلى المخلوقين ، ولا يقال : إن شيئا بعيدا عنه تعالى أو قريبا منه في المكان الحسي ؛ لأن كل الأشياء بالنسبة إليه تعالى سواء ، وإنما القرب منه والبعد عنه تعالى معنوي ، وهو أقرب إلينا من أنفسنا بعلمه .

                          ( لا ريب فيه ) الريب والريبة : الشك والظنة ( التهمة ) والمعنى : أن ذلك الكتاب مبرأ من وصمات العيب فلا شك فيه ، ولا ريبة تعتريه ، لا من جهة كونه من عند الله تعالى ، [ ص: 105 ] ولا في كونه هاديا مرشدا ، ويصح أن يقال : إنه في قوة آياته ونصوع بيناته ، بحيث لا يرتاب عاقل منصف وغير متعنت ولا متعسف في كونه هداية مفاضة من سماء الحق .

                          مهداة إلى الخلق ، على لسان أمي لم يسبق له قبله الاشتغال بشيء من علومه ، ولا الإتيان بكلام يقرب منه في بلاغته ، ولا أسلوبه حتى بعد نبوته - ولهذا قال فيما يأتي قريبا ( وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله ) ( : 23 ) وحاصله : أنه كذلك في كل من نظمه وأسلوبه وبلاغته ، ومن معانيه وعلومه وتأثيره في الهداية - لا يمكن أن توجه إليه الشبهة ، أو تحوم الريبة ، سواء أشك في ذلك أحد بجهالته وعمى بصيرته ، أو بتكلفه ذلك عنادا أو تقليدا أم لا .

                          ( هدى للمتقين ) خبر بعد خبر والهدى : مصدر في الأصل كالتقى والسرى ، والمراد بالهداية هنا : الدلالة على الصراط المستقيم مع المعونة الخاصة والأخذ باليد على ما تقدم في تفسير المراد من ( اهدنا الصراط ) لأن كونه هاديا للمتقين بالفعل غير كونه هاديا - دالا - لسائر الناس من غير مراعاة أخذهم بدلالته ، واستقامتهم على طريقته ، وكلمة ( المتقين ) من الاتقاء ، والاسم : التقوى ، وأصل المادة : وقى يقي ، والوقاية معروفة المعنى ، وهو : البعد أو التباعد عن المضر أو مدافعته ، ولكن نجد هذا الحرف مستعملا بالنسبة إلى الله تعالى كقوله: ( وإياي فاتقون - واتقوا الله - فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون ) فمعنى اتقاء الله تعالى اتقاء عذابه وعقابه ، وإنما تضاف التقوى إلى الله تعالى تعظيما لأمر عذابه وعقابه ، وإلا فلا يمكن لأحد أن يتقي ذات الله تعالى ولا تأثير قدرته ، ولا الخضوع الفطري لمشيئته .

                          ومدافعة عذاب الله تعالى تكون باجتناب ما نهى واتباع ما أمر ، وذلك يحصل بالخوف من العذاب ومن المعذب ، فالخوف يكون ابتداء من العذاب وفي الحقيقة من مصدره ، فالمتقي : هو من يحمي نفسه من العقاب ، ولا بد في ذلك أن يكون عنده نظر ورشد يعرف بهما أسباب العقاب والآلام فيتقيها .

                          وأقول الآن : إن العقاب الإلهي الذي يجب على الناس اتقاؤه قسمان : دنيوي وأخروي ، وكل منهما يتقى باتقاء أسبابه ، وهي نوعان : مخالفة دين الله وشرعه ، ومخالفة سنته في نظام خلقه .

                          فأما عقاب الآخرة فيتقى بالإيمان الصحيح الخالص والعمل الصالح ، واجتناب ما ينافي ذلك من الشرك والكفر والمعاصي والرذائل ، وذلك مبين في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وأفضل ما يستعان به على فهمهما واتباعهما سيرة السلف الصالح من الصحابة والتابعين والأئمة الأولين من آل الرسول وعلماء الأمصار .

                          [ ص: 106 ] وأما عقاب الدنيا فيجب أن يستعان على اتقائه بالعلم بسنن الله تعالى في هذا العالم ، ولا سيما سنن اعتدال المزاج وصحة الأبدان - وأمثلتها ظاهرة - وسنن الاجتماع البشري .

                          فاتقاء الفشل والخذلان في القتال يتوقف على معرفة نظام الحرب وفنونها ، وإتقان آلاتها وأسلحتها التي ارتقت في هذا العصر ارتقاء عجيبا ، وهو المشار إليه بقوله تعالى : ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ) ( 8 : 60 ) كما يتوقف على أسباب القوة المعنوية من اجتماع الكلمة واتحاد الأمة والصبر والثبات والتوكل على الله واحتساب الأجر عنده ( ياأيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين ) ( 8 : 45 - 46 ) ونحن نبين معنى التقوى في القرآن في كل موضوع بما يناسبه كالتقوى في الأكل من الطيبات في سورة المائدة : ( 5 : 88 ) ومثله في سياق تحريم الخمر منها ( الآية 90 ) وغير ذلك فيراجع كل شيء في موضعه .

                          وقال شيخنا في بيان المراد بهؤلاء المتقين ما معناه : كان من الجاهلين من مقت عبادة الأصنام وأدرك أن فاطر السماوات والأرض لا يرضيه الخضوع لها ، وأن الإله الحق يحب الخير ويبغض الشر . فكان منهم من اعتزل الناس لذلك ، وكانوا لا يعرفون من عبادة الله إلا الالتجاء والابتهال وتعظيم جانب الربوبية ، وذلك ما كان يسمى صلاة في لسانهم ، وبعض الخيرات التي يهتدي إليها العقل في معاملات الخلق .

                          وكان من أهل الكتاب من وصفهم الله تعالى بمثل قوله : ( من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين ) ( 3 : 113 - 114 ) وبقوله : ( ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين ) ( 5 : 82 ، 83 ) فأمثال هؤلاء من الفريقين هم المراد بالمتقين ولا حاجة إلى تخصيص ما جاء في وصفهم بالمؤمنين منهم بعد الإسلام أو بالمسلمين ، بل أولئك هم الذين كان في قلوبهم اشمئزاز مما عليه أقوامهم ، وفي نفوسهم شيء من التشوف إلى هداية يهتدون بها ، ويشعرون باستعدادهم لها إذا جاءهم شيء من عند الله تعالى ، فالمتقون في هذه الآية إذن هم الذين سلمت فطرتهم فأصابت عقولهم ضربا من الرشاد ، ووجد في أنفسهم شيء من الاستعداد لتلقي نور الحق يحملهم على توقي سخط الله تعالى والسعي في مرضاته بحسب ما وصل إليه علمهم ، وأداهم إليه نظرهم واجتهادهم .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية