الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 27 ] باب التيمم

من لم يقدر على استعمال الماء لبعده ميلا أو لمرض ( ف ) أو برد ( ف ) أو خوف عدو أو عطش أو عدم آلة ، يتيمم بما كان من أجزاء الأرض كالتراب والرمل والجص ( فس ) والكحل ( فس ) ، ولا بد فيه من الطهارة والنية ( ز ) ، ويستوي فيه المحدث والجنب والحائض . وصفة التيمم أن يضرب بيديه على الصعيد فينفضهما ثم يمسح بهما وجهه ، ثم يضربهما كذلك ، ويمسح بكل كف ظهر ذراع الأخرى وباطنها مع المرفق ( ف ) والاستيعاب شرط ، ويجوز قبل الوقت ( ف ) وقبل طلب الماء ( ف ) ، - ولو صلى بالتيمم - ثم وجد الماء لم يعد ، وإن وجده في خلال الصلاة توضأ ( ف ) واستقبل ، ويصلي بالتيمم الواحد ما شاء ( ف ) من الصلوات كالوضوء; ويستحب تأخير الصلاة لمن طمع في الماء ، وتجوز الصلاة على الجنازة ( ف ) بالتيمم إذا خاف فوتها لو توضأ ، وكذلك صلاة العيد ( ف ) ، ولا يجوز للجمعة وإن خاف الفوت ، ولا للفرض إذا خاف فوت الوقت ، وينقضه نواقض الوضوء والقدرة على الماء واستعماله ولو صلى المسافر بالتيمم ونسي الماء في رحله لم يعد ( فس ) ، ويطلب الماء من رفيقه فإن منعه تيمم ، ويشتري الماء بثمن المثل إذا كان قادرا عليه ، ولا يجب عليه أن يشتريه بأكثر ، ولا يجمع بين الوضوء والتيمم ، فمن كان به جراحة غسل بدنه إلا موضعها ، ولا يتيمم لها .

التالي السابق


باب التيمم

وهو في اللغة مطلق القصد ، قال الشاعر :

ولا أدري إذا يممت أرضا أريد الخير أيهما يليني

وفي الشرع قصد الصعيد الطاهر واستعماله بصفة مخصوصة لإقامة القربة ، وسبب وجوبه ما هو سبب وجوب الوضوء ، وشرط جوازه العجز عن استعمال الماء لأنه خلف الوضوء ، فلا يشرع معه ، والأصل في جواز التيمم قوله تعالى : ( فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا ) وقوله - صلى الله عليه وسلم - : " التيمم كافيك ولو إلى عشر حجج ما لم تجد الماء " . قال : ( من لم يقدر على استعمال الماء [ ص: 28 ] لبعده ميلا أو لمرض أو برد أو خوف عدو أو عطش أو عدم آلة ) يستقي بها .

( يتيمم بما كان من أجزاء الأرض كالتراب والرمل والجص والكحل ) أما بعد الماء فلقوله تعالى : ( فلم تجدوا ماء فتيمموا ) ، وأما التقدير بالميل فلما يلحقه من الحرج بذهابه إليه وإيابه ، والميل : ثلث فرسخ ، وأما المرض فللآية ، وسواء خاف ازدياد المرض أو طوله ، أو خاف من برد الماء أو من التحريك للاستعمال ; لأن الآية لا تفصل ، وكذلك الصحيح إذا خاف المرض من استعمال الماء البارد لما فيه من الحرج ، ويستوي فيه المصر وخارجه .

وقالا : لا يجوز التيمم في المصر ; لأن الغالب قدرته على الماء المسخن . قلنا لا نسلم ذلك في حق الغريب الفقير ، على أن الكلام عند عدم القدرة فيكون عاجزا فيتيمم بالنص ، وكذلك لو حال بينه وبين الماء عدو أو سبع لأنه عادم حقيقة ، وكذلك إن كان معه ماء ويخاف العطش لو استعمله فإنه يتيمم ، لأنه عادم حكما ، إما لخوف الهلاك ، أو لأنه مشغول بالأهم فصار عادما ، وكذلك إذا كان على بئر وليس معه ما يستقي به لأنه عادم أيضا حكما ، ويتيمم بما كان من أجزاء الأرض لقوله تعالى : ( صعيدا طيبا ) والصعيد : ما يصعد على وجه الأرض لغة ، والطيب : الطاهر ، وحمله على ذلك أولى من حمله على المنبت ; لأن المراد من الآية التطهير لقوله تعالى : ( ولكن يريد ليطهركم ) فكان إرادة الطاهر أليق ، وهو حجة على أبي يوسف في التخصيص بالتراب والرمل ، وعلى الشافعي في التخصيص بالتراب لا غير بناء على أن المراد بالطيب المنبت ؛ لأن الطيب اسم مشترك بين الطاهر والمنبت والحلال . وإرادة ما ذكرنا أولى لما بينا ، ثم كل ما لا يلين ولا ينطبع بالنار فهو من جنس الأرض ، وكل ما يلين وينطبع أو يحترق فيصير رمادا ليس من جنس الأرض ؛ لأن من طبع الأرض أن لا تلين بالنار .

( ولا بد فيه من الطهارة ) لما قدمنا . ( و ) لا بد من ( النية ) وهي أن ينوي رفع الحدث أو استباحة الصلاة . وقال زفر : لا تشترط النية كالوضوء . ولنا أنه مأمور بالتيمم وهو القصد ، والقصد : النية فلا بد منها ، بخلاف الوضوء فإنه مأمور بغسل الأعضاء وقد وجد ، ثم التراب ملوث ومغبر ، وإنما يصير مطهرا ضرورة إرادة الصلاة وذلك بالنية [ ص: 29 ] بخلاف الوضوء ; لأن الماء مطهر في نفسه فاستغنى في وقوعه طهارة عن النية ، لكن يحتاج إليها في وقوعه عبادة وقربة .

قال : ( ويستوي فيه المحدث والجنب ) للآية ولقوله - عليه الصلاة والسلام - لعمار بن ياسر حين أجنب فتمعك بالتراب : " يكفيك ضربتان : ضربة للوجه ، وضربة لليدين إلى المرفقين " .

( والحائض ) والنفساء كالجنب .

( وصفة التيمم أن يضرب بيديه على الصعيد فينفضهما ثم يمسح بهما وجهه ، ثم يضربهما كذلك ، ويمسح بكل كف ظهر ذراع الأخرى وباطنها مع المرفق ) لحديث عمار ، ولقوله - عليه الصلاة والسلام - : " التيمم ضربتان : ضربة للوجه ، وضربة للذراعين إلى المرفقين " .

( والاستيعاب شرط ) حتى يخلل أصابعه ذكره محمد في الأصل ، وهو ظاهر الرواية اعتبارا بالوضوء . وروى الحسن في المجرد عن أبي حنيفة إذا يمم الأكثر جاز لما فيه من الحرج والأول أصح .

( ويجوز قبل الوقت ) تمكينا له من الأداء في أول الوقت ، وكما في الوضوء لأنه خلفه .

( ويجوز قبل طلب الماء ) لأنه عادم حقيقة ، والظاهر العدم في المفاوز إلا إذا غلب على ظنه أن بقربه ماء فلا يجوز ما لم يطلب لأنه واجد نظرا إلى الدليل ، والدليل إخبار أو علامة يستدل بها على الماء ويطلبه مقدار غلوة ، وهي مقدار رمية سهم ولا يبلغ ميلا ، وقيل مقدار ما لا ينقطع عن رفقائه .

[ ص: 30 ] ( ولو صلى ، بالتيمم ثم وجد الماء لم يعد ) لأنه أتى بما أمر به وهو الصلاة بالتيمم فخرج عن العهدة .

( وإن وجده في خلال الصلاة توضأ واستقبل ) لأنه قدر على الأصل قبل حصول المقصود بالخلف ، ولأن التيمم ينتقض برؤية الماء فانتقضت طهارته فيتوضأ ويستقبل .

( ويصلي بالتيمم الواحد ما شاء من الصلوات كالوضوء ) فرضا ونفلا لقوله - عليه الصلاة والسلام - : " التراب طهور المسلم ما لم يجد الماء أو يحدث " ، ولأن طهارته ضرورة عدم الماء وهي قائمة .

( ويستحب تأخير الصلاة لمن طمع في ) وجود ( الماء ) ليؤديها بأكمل الطهارتين .

( وتجوز الصلاة على الجنازة بالتيمم إذا خاف فوتها لو توضأ ) لأنها لا تعاد على ما يأتيك إن شاء الله تعالى فتفوت .

( وكذلك صلاة العيد ) لأنها لا تعاد ولا تقضى وهو مخاطب بها ، ولا يمكنه أداؤها بالوضوء فيتيمم كالمريض .

قال : ( ولا يجوز للجمعة وإن خاف الفوت ) لأنها تفوت إلى خلف وهو الظهر ؛ لأن الظهر فرض الوقت على ما نبينه إن شاء الله تعالى .

( ولا ) يجوز .

( للفرض إذا خاف فوت الوقت ) لأنها تفوت إلى خلف وهو القضاء .

قال : ( وينقضه نواقض الوضوء ) لأنه خلف عنه ، وما ينقض الأصل أولى أن ينقض الخلف لأن الأصل أقوى .

[ ص: 31 ] قال : ( و ) ينقضه .

( القدرة على الماء واستعماله ) لقوله - عليه الصلاة والسلام - : " ما لم تجد الماء " ، والماء موضوع في الجب وغيره بالفلاة لا ينقضه لأنه موضوع للشرب .

قال : ( ولو صلى المسافر بالتيمم ونسي الماء في رحله لم يعد ) وقال أبو يوسف : يعيد لأنه تيمم قبل الطلب مع الدليل ، فإن الرحل لا يخلو عن الماء عادة ، وصار كما إذا صلى عريانا ونسي الثوب ، أو كفر بالصوم ونسي المال . ولهما أنه عاجز عن استعمال الماء لأنه لا قدرة عليه مع النسيان ، وعجزه بأمر سماوي وهو النسيان ، قال - عليه الصلاة والسلام - للذي أفطر ناسيا : " إنما أطعمك ربك وسقاك " بخلاف المحبوس ; لأن العجز من جهة العباد فلا يؤثر في إسقاط حق الشرع فلا يجوز له التيمم . وأما مسألة الثوب فممنوعة على الصحيح ، ولئن سلمت فالفرق أن الوضوء فات إلى خلف وستر العورة فات لا إلى خلف . وأما مسألة الكفارة فالفرق أن شرط جواز الصوم عدم كون الماء في ملكه ولم يوجد وشرط جواز التيمم العجز عن استعمال الماء وقد وجد ، والرحل عادة لا يخلو عن ماء الشرب ، أما ماء الوضوء فالغالب العدم فيه ، ولو ظن أن ماءه قد فني ولم يتيقن لم يجز تيممه ؛ لأن اليقين لا يزول بالظن .

( ويطلب الماء من رفيقه ) لاحتمال أن يعطيه .

( فإن منعه تيمم ) لأن بالمنع صار عادما للماء ، وإن تيمم قبل الطلب جاز عند أبي حنيفة لأنه عاجز ولا يجب عليه الطلب ، وعند أبي يوسف لا يجوز لأن الماء مبذول عادة فصار كالموجود ، وعلى قياس قول محمد إن غلب على ظنه أنه يعطيه لا يجوز ، وإلا يجوز .

( ويشتري الماء بثمن المثل إذا كان قادرا عليه ) لأن القدرة على البدل قدرة على المبدل . ( ولا يجب عليه أن يشتريه بأكثر ) والكثير : ما فيه غبن فاحش ، وهو ضعف ثمن المثل في ذلك المكان لأنه ضرر به . وروى الحسن عن أبي حنيفة إذا قدر أن يشتري ما يساوي درهما بدرهم ونصف لا يتيمم ، وقيل يعتبر الغبن الفاحش ، وهو ما لا يدخل تحت تقويم المقومين .

[ ص: 32 ] قال : ( ولا يجمع بين الوضوء والتيمم ، فمن كان به جراحة ) يضرها الماء ووجب عليه الغسل . ( غسل بدنه إلا موضعها ولا يتيمم لها ) ، وكذلك إن كانت الجراحة في شيء من أعضاء الوضوء غسل الباقي إلا موضعها . ولا يتيمم لها وإن كان الجراح أو الجدري في أكثر جسده فإنه يتيمم ولا يغسل بقية جسده ؛ لأن الجمع بينهما جمع بين البدل والمبدل ولا نظير له في الشرع ، بخلاف الجمع بين التيمم وسؤر الحمار ; لأن الفرض يتأدى بأحدهما لا بهما ، فجمعنا بينهما لمكان الشك . وإن كان النصف جريحا والنصف صحيحا لا رواية فيه ، واختلف فيه المشايخ ، فمنهم من أوجب التيمم لأنه طهارة كاملة ، ومنهم من أوجب غسل الصحيح ومسح الجريح إذا لم يضره المسح لأنها طهارة حقيقية وحكمية فكان أولى ، والأول أحسن .




الخدمات العلمية