الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
. فصل في الرأي المحمود ، وهو أنواع .

[ النوع الأول من الرأي المحمود ]

النوع الأول : رأي أفقه الأمة ، وأبر الأمة قلوبا ، وأعمقهم علما ، وأقلهم تكلفا ، وأصحهم قصودا ، وأكملهم فطرة ، وأتمهم إدراكا ، وأصفاهم أذهانا ، الذي شاهدوا التنزيل ، وعرفوا التأويل ، وفهموا مقاصد الرسول ; فنسبة آرائهم وعلومهم وقصودهم إلى ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم كنسبتهم إلى صحبته ; والفرق بينهم وبين من بعدهم في ذلك كالفرق بينهم وبينهم في الفضل ; فنسبة رأي من بعدهم إلى رأيهم كنسبة قدرهم إلى قدرهم .

قال الشافعي رحمه الله في رسالته البغدادية التي رواها عنه الحسن بن محمد الزعفراني ، وهذا لفظه : وقد أثنى الله تبارك وتعالى على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن والتوراة والإنجيل ، وسبق لهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفضل ما ليس لأحد بعدهم ، فرحمهم الله وهنأهم بما آتاهم من ذلك ببلوغ أعلى منازل الصديقين والشهداء والصالحين ، أدوا إلينا سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وشاهدوه والوحي ينزل عليه فعلموا ما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم عاما وخاصا وعزما وإرشادا ، وعرفوا من سنته ما عرفنا وجهلنا ، وهم فوقنا في كل علم واجتهاد وورع وعقل وأمر استدرك به علم واستنبط به ، وآراؤهم لنا أحمد ، وأولى بنا من رأينا عند أنفسنا ، ومن أدركنا ممن يرضى أو حكي لنا عنه ببلدنا صاروا فيما لم يعلموا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيه سنة إلى قولهم إن اجتمعوا ، أو قول بعضهم إن تفرقوا ، وهكذا نقول ، ولم نخرج عن أقاويلهم ، وإن قال أحدهم ولم يخالفه غيره أخذنا بقوله [ ص: 64 ]

ولما كان رأي الصحابة عند الشافعي بهذه المثابة قال في الجديد في كتاب الفرائض في ميراث الجد والإخوة : وهذا مذهب تلقيناه عن زيد بن ثابت ، وعنه أخذنا أكثر الفرائض وقال : والقياس عندي قتل الراهب لولا ما جاء عن أبي بكر رضي الله عنه ، فترك صريح القياس لقول الصديق ، وقال في رواية الربيع عنه : والبدعة ما خالف كتابا أو سنة أو أثرا عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجعل ما خالف قول الصحابي بدعة ، وسيأتي إن شاء الله تعالى إشباع الكلام في هذه المسألة ، وذكر نصوص الشافعي عند ذكر تحريم الفتوى بخلاف ما أفتى به الصحابة ، ووجوب اتباعهم في فتاويهم ، وأن لا يخرج من جملة أقوالهم ، وأن الأئمة متفقون على ذلك .

[ ليس مثل الصحابة أحد ]

والمقصود أن أحدا ممن بعدهم لا يساويهم في رأيهم ، وكيف يساويهم وقد كان أحدهم يرى الرأي فينزل القرآن بموافقته ؟ كما رأى عمر في أسارى بدر أن تضرب أعناقهم فنزل القرآن بموافقته ، ورأى أن تحجب نساء النبي صلى الله عليه وسلم فنزل القرآن بموافقته ، ورأى أن يتخذ من مقام إبراهيم مصلى فنزل القرآن بموافقته ; وقال لنساء النبي صلى الله عليه وسلم لما اجتمعن في الغيرة عليه { عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات } فنزل القرآن بموافقته ، { ولما توفي عبد الله بن أبي قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه ، فقام عمر فأخذ بثوبه ، فقال : يا رسول الله إنه منافق ، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عليه : { ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره } } .

{ وقد قال سعد بن معاذ لما حكمه النبي صلى الله عليه وسلم في بني قريظة : إني أرى أن تقتل مقاتلتهم ، وتسبى ذرياتهم ، وتغنم أموالهم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات } .

ولما اختلفوا إلى ابن مسعود شهرا في المفوضة قال : أقول فيها برأيي ، فإن يكن صوابا فمن الله ، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان ، والله ورسوله بريء منه ، أرى أن لها مهر نسائها لا وكس ولا شطط ، ولها الميراث ، وعليها العدة ، فقام ناس من أشجع فقالوا : نشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في امرأة منا يقال لها بروع بنت واشق مثل ما قضيت به ، فما فرح ابن مسعود بشيء بعد الإسلام فرحه بذلك .

وحقيق بمن كانت آراؤهم بهذه المنزلة أن يكون رأيهم لنا خيرا من رأينا لأنفسنا ، وكيف لا وهو الرأي الصادر من قلوب ممتلئة نورا وإيمانا وحكمة وعلما ومعرفة وفهما عن الله [ ص: 65 ] ورسوله ونصيحة للأمة ، وقلوبهم على قلب نبيهم ، ولا واسطة بينهم وبينه ، وهم ينقلون العلم والإيمان من مشكاة النبوة غضا طريا لم يشبه إشكال ، ولم يشبه خلاف ، ولم تدنسه معارضة ، فقياس رأي غيرهم بآرائهم من أفسد القياس .

التالي السابق


الخدمات العلمية