الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

اختلف : هل المتشابه مما يمكن الاطلاع على علمه ، أو لا يعلمه إلا الله ؟

على قولين ، منشؤهما الاختلاف في قوله : والراسخون في العلم [ آل عمران : 7 ] . هل هو معطوف و يقولون حال ؟ أو مبتدأ ، خبره يقولون والواو للاستئناف ؟

وعلى الأول : طائفة يسيرة ، منهم مجاهد ، وهو رواية عن ابن عباس . فأخرج ابن المنذر من طريق مجاهد ، عن ابن عباس في قوله : وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم قال : أنا ممن يعلم تأويله .

وأخرج عبد بن حميد ، عن مجاهد في قوله : والراسخون في العلم قال : يعلمون تأويله ، ويقولون : آمنا به .

وأخرج ابن أبي حاتم ، عن الضحاك ، قال : الراسخون في العلم يعلمون تأويله ، ولو لم يعلموا تأويله لم يعلموا ناسخه من منسوخه ، ولا حلاله من حرامه ، ولا محكمه من متشابهه .

واختار هذا القول النووي ; فقال في شرح مسلم : إنه الأصح ; لأنه يبعد أن يخاطب الله [ ص: 595 ] عباده بما لا سبيل لأحد من الخلق إلى معرفته .

وقال ابن الحاجب : إنه الظاهر .

وأما الأكثرون من الصحابة والتابعين وأتباعهم ومن بعدهم - خصوصا أهل السنة - فذهبوا إلى الثاني ، وهو أصح الروايات عن ابن عباس .

قال ابن السمعاني : لم يذهب إلى القول الأول إلا شرذمة قليلة ، واختاره العتبي ، قال : وقد كان يعتقد مذهب أهل السنة ، لكنه سها في هذه المسألة .

قال ولا غرو ، فإن لكل جواد كبوة ، ولكل عالم هفوة .

قلت : ويدل لصحة مذهب الأكثرين : ما أخرجه عبد الرزاق في تفسيره ، والحاكم في مستدركه ، عن ابن عباس أنه كان يقرأ : ( وما يعلم تأويله إلا الله ويقول الراسخون في العلم آمنا به ) .

فهذا يدل على أن الواو للاستئناف ; لأن هذه الرواية - وإن لم تثبت بها القراءة - فأقل درجاتها أن يكون خبرا بإسناد صحيح إلى ترجمان القرآن فيقدم كلامه في ذلك على من دونه .

ويؤيد ذلك أن الآية دلت على ذم متبعي المتشابه ووصفهم بالزيغ وابتغاء الفتنة ، وعلى مدح الذين فوضوا العلم إلى الله ، وسلموا إليه كما مدح الله المؤمنين بالغيب .

وحكى الفراء : أن في قراءة أبي بن كعب أيضا : ( ويقول الراسخون ) .

وأخرج ابن أبي داود في " المصاحف " من طريق الأعمش ، قال في قراءة ابن مسعود : ( وإن [ حقيقة ] تأويله إلا عند الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به ) .

وأخرج الشيخان وغيرهما ، عن عائشة ، قالت : تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية هو الذي أنزل عليك الكتاب إلى قوله : أولو الألباب [ آل عمران : 7 ] .

قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذرهم .

وأخرج الطبراني في الكبير ، عن أبي مالك الأشعري : أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : [ ص: 596 ] لا أخاف على أمتي إلا ثلاث خلال : أن يكثر لهم المال فيتحاسدوا فيقتتلوا ، وأن يفتح لهم الكتاب فيأخذه المؤمن يبتغي تأويله ، وما يعلم تأويله إلا الله . الحديث .

وأخرج ابن مردويه ، من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضا ، فما عرفتم منه فاعملوا به ، وما تشابه فآمنوا به .

وأخرج الحاكم ، عن ابن مسعود ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال كان الكتاب الأول ينزل من باب واحد على حرف واحد ، ونزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف : زاجر ، وآمر ، وحلال ، وحرام ، ومتشابه ، وأمثال ، فأحلوا حلاله ، وحرموا حرامه وافعلوا ما أمرتم به ، وانتهوا عما نهيتم عنه ، واعتبروا بأمثاله ، واعملوا بمحكمه ، وآمنوا بمتشابهه ، وقولوا : آمنا به كل من عند ربنا .

وأخرج البيهقي في الشعب نحوه ، من حديث أبي هريرة .

[ ص: 597 ] وأخرج ابن جرير ، عن ابن عباس مرفوعا : أنزل القرآن على أربعة أحرف : حلال وحرام لا يعذر أحد بجهالته ، وتفسير تفسره العرب ، وتفسير تفسره العلماء ، ومتشابه لا يعلمه إلا الله ، ومن ادعى علمه سوى الله فهو كاذب . ثم أخرجه من وجه آخر عن ابن عباس موقوفا بنحوه .

وأخرج ابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس قال : ( نؤمن بالمحكم وندين به ، ونؤمن بالمتشابه ولا ندين به ، وهو من عند الله كله ) .

وأخرج - أيضا - عن عائشة قالت : ( كان رسوخهم في العلم أن آمنوا بمتشابهه ولا يعلمونه ) .

وأخرج - أيضا - عن أبي الشعثاء وأبي نهيك ، قال : إنكم تصلون هذه الآية وهي مقطوعة .

وأخرج الدارمي في مسنده ، عن سليمان بن يسار : أن رجلا يقال له صبيغ قدم المدينة ، فجعل يسأل عن متشابه القرآن فأرسل إليه عمر ، وقد أعد له عرجونا من العراجين ، فضربه حتى دمى رأسه .

وفي رواية عنده : فضربه بالجريد حتى ترك ظهره دبرة ، ثم تركه حتى برأ ، ثم عاد له ، ثم تركه حتى برأ ، فدعا به ليعود ، فقال : إن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلا جميلا . فأذن له إلى أرضه ، وكتب إلى أبي موسى الأشعري ألا يجالسه أحد من المسلمين .

[ ص: 598 ] وأخرج الدارمي ، عن عمر بن الخطاب ، قال : إنه سيأتيكم ناس يجادلونكم بمشتبهات القرآن ، فخذوهم بالسنن ، فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله .

فهذه الأحاديث والآثار تدل على أن المتشابه مما لا يعلمه إلا الله ، وأن الخوض فيه مذموم ، وسيأتي قريبا زيادة على ذلك .

قال الطيبي : المراد بالمحكم ما اتضح معناه ، والمتشابه بخلافه ; لأن اللفظ الذي يقبل معنى : إما أن يحتمل غيره أو لا ، والثاني : النص ، والأول : إما أن تكون دلالته على ذلك الغير أرجح أو لا ، والأول : هو الظاهر ، والثاني : إما أن يكون مساويه أو لا ، والأول : هو المجمل ، والثاني : المؤول . فالمشترك بين النص والظاهر هو المحكم ، والمشترك بين المجمل والمؤول هو المتشابه .

ويؤيد هذا التقسيم : أنه تعالى أوقع المحكم مقابلا للمتشابه ، قالوا : فالواجب أن يفسر المحكم بما يقابله .

ويعضد ذلك أسلوب الآية ، وهو الجمع مع التقسيم ; لأنه تعالى فرق ما جمع في معنى الكتاب ، بأن قال منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات ، وأراد أن يضيف إلى كل منهما ما شاء ، فقال أولا : فأما الذين في قلوبهم زيغ إلى أن قال : والراسخون في العلم يقولون آمنا به وكان يمكن أن يقال ( وأما الذين في قلوبهم استقامة ، فيتبعون المحكم ) لكنه وضع موضع ذلك والراسخون في العلم لإتيان لفظ الرسوخ ; لأنه لا يحصل إلا بعد التثبت العام والاجتهاد البليغ ، فإذا استقام القلب على طرق الإرشاد ، ورسخ القدم في العلم أفصح صاحبه النطق بالقول الحق وكفى بدعاء الراسخين في العلم ربنا لا تزغ قلوبنا [ آل عمران : 8 ] إلى آخره . . . . شاهدا على أن والراسخون في العلم مقابل لقوله : و الذين في قلوبهم زيغ .

وفيه إشارة إلى أن الوقف على قوله : إلا الله تام ، وإلى أن علم بعض المتشابه مختص بالله تعالى ، وأن من حاول معرفته هو الذي أشار إليه في الحديث ، بقوله : " ( فاحذروهم " ) .

وقال بعضهم : العقل مبتلى باعتقاد حقية المتشابه كابتلاء البدن بأداء العبادة ، كالحكيم : إذا صنف كتابا أجمل فيه أحيانا ; ليكون موضع خضوع المتعلم لأستاذه ، وكالملك يتخذ علامة يمتاز بها من يطلعه على سره .

[ ص: 599 ] وقيل : لو لم يبتل العقل - الذي هو أشرف البدن - لاستمر العالم في أبهة العلم على التمرد ، فبذلك يستأنس إلى التذلل بعز العبودية ، والمتشابه هو موضع خضوع العقول لبارئها استسلاما واعترافا بقصورها .

وفي ختم الآية بقوله تعالى : وما يذكر إلا أولو الألباب تعريض بالزائغين ، ومدح للراسخين ، يعني : من لم يتذكر ويتعظ ويخالف هواه ، فليس من أولي العقول ، ومن ثم قال الراسخون : ربنا لا تزغ قلوبنا إلى آخر الآية ، فخضعوا لبارئهم لاستنزال العلم اللدني ، بعد أن استعاذوا به من الزيغ النفساني .

وقال الخطابي : المتشابه على ضربين : أحدهما : ما إذا رد إلى المحكم واعتبر به عرف معناه ، والآخر : ما لا سبيل إلى الوقوف على حقيقته ، وهو الذي يتبعه أهل الزيغ فيطلبون تأويله ، ولا يبلغون كنهه ، فيرتابون فيه فيفتتنون .

وقال ابن الحصار : قسم الله آيات القرآن إلى محكم ومتشابه ، وأخبر عن المحكمات أنها أم الكتاب ; لأن إليها ترد المتشابهات ، وهي التي تعتمد في فهم مراد الله من خلقه في كل ما تعبدهم به من معرفته ، وتصديق رسله ، وامتثال أوامره واجتناب نواهيه ، وبهذا الاعتبار كانت أمهات .

ثم أخبر عن الذين في قلوبهم زيغ أنهم هم الذين يتبعون ما تشابه منه ، ومعنى ذلك : أن من لم يكن على يقين من المحكمات ، وفي قلبه شك واسترابة ، كانت راحته في تتبع المشكلات المتشابهات ، ومراد الشارع منها التقدم إلى فهم المحكمات ، وتقديم الأمهات ، حتى إذا حصل اليقين ورسخ العلم لم تبال بما أشكل عليك .

ومراد هذا الذي في قلبه زيغ التقدم إلى المشكلات ، وفهم المتشابه قبل فهم الأمهات ، وهو عكس المعقول والمعتاد والمشروع ، ومثل هؤلاء مثل المشركين الذين يقترحون على رسلهم آيات غير الآيات التي جاءوا بها ، ويظنون أنهم لو جاءتهم آيات أخر لآمنوا عندها ، جهلا منهم ، وما علموا أن الإيمان بإذن الله تعالى . انتهى .

وقال الراغب في " مفردات القرآن " : الآيات عند اعتبار بعضها ببعض ثلاثة أضرب :

محكم على الإطلاق ، ومتشابه على الإطلاق ، ومحكم من وجه متشابه من وجه .

فالمتشابه بالجملة ثلاثة أضرب :

متشابه من جهة اللفظ فقط ، ومن جهة المعنى فقط ، ومن جهتهما .

فالأول : ضربان :

[ ص: 600 ] أحدهما : يرجع إلى الألفاظ المفردة ; إما من جهة الغرابة نحو : ( الأب ) و يزفون [ الصافات : 94 ] أو الاشتراك كاليد واليمين .

وثانيهما : يرجع إلى جملة الكلام المركب ; وذلك ثلاثة أضرب :

ضرب لاختصار الكلام ، نحو : وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم [ النساء : 3 ] .

وضرب لبسطه ، نحو : ليس كمثله شيء [ الشورى : 11 ] لأنه لو قيل : ( ليس مثله شيء ) كان أظهر للسامع .

وضرب لنظم الكلام ، نحو : أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما [ الكهف : 1 - 2 ] تقديره : ( أنزل على عبده الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا ) .

والمتشابه من جهة المعنى : أوصاف الله تعالى وأوصاف القيامة ; فإن تلك الأوصاف لا تتصور لنا ، إذا كان لا يحصل في نفوسنا صورة ما لم نحسه ، أو ليس من جنسه .

والمتشابه من جهتهما خمسة أضرب :

الأول : من جهة الكمية ، كالعموم والخصوص ، نحو : فاقتلوا المشركين [ التوبة : 5 ] .

والثاني : من جهة الكيفية ، كالوجوب والندب ، نحو : فانكحوا ما طاب لكم من النساء [ النساء : 3 ] .

والثالث : من جهة الزمان ، كالناسخ والمنسوخ ، نحو : اتقوا الله حق تقاته [ آل عمران : 102 ] .

والرابع : من جهة المكان والأمور التي نزلت فيها ، نحو : وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها [ البقرة : 189 ] . إنما النسيء زيادة في الكفر [ التوبة : 37 ] ; فإن من لا يعرف عادتهم في الجاهلية يتعذر عليه تفسير هذه الآية .

الخامس : من جهة الشروط التي يصح بها الفعل أو يفسد ، كشروط الصلاة والنكاح .

قال : وهذه الجملة إذا تصورت ، علم أن كل ما ذكره المفسرون في تفسير المتشابه لا يخرج عن هذه التقاسيم .

ثم جميع المتشابه على ثلاثة أضرب :

ضرب لا سبيل إلى الوقوف عليه ، كوقت الساعة ، وخروج الدابة ، ونحو ذلك .

وضرب للإنسان سبيل إلى معرفته ، كالألفاظ الغريبة والأحكام الفلقة .

وضرب متردد بين الأمرين ، يختص بمعرفته بعض الراسخين في العلم ويخفى على من [ ص: 601 ] دونهم ، وهو المشار إليه بقوله صلى الله عليه وسلم لابن عباس اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل .

وإذا عرفت هذه الجهة عرفت أن الوقف على قوله : وما يعلم تأويله إلا الله ووصله بقوله : والراسخون في العلم جائز ، وأن لكل واحد منهما وجها حسبما دل عليه التفصيل المتقدم . انتهى .

وقال الإمام فخر الدين : صرف اللفظ عن الراجح إلى المرجوح لا بد فيه من دليل منفصل ، وهو إما لفظي أو عقلي :

والأول : لا يمكن اعتباره في المسائل الأصولية ; لأنه لا يكون قاطعا لأنه موقوف على انتفاء الاحتمالات العشرة المعروفة ، وانتفاؤها مظنون ، والموقوف على المظنون مظنون ، والظني لا يكتفى به في الأصول .

وأما العقلي : فإنما يفيد صرف اللفظ من ظاهره لكون الظاهر محالا ، وأما إثبات المعنى المراد فلا يمكن بالعقل ; لأن طريق ذلك ترجيح مجاز على مجاز ، وتأويل على تأويل ، وذلك الترجيح لا يمكن إلا بالدليل اللفظي ، والدليل اللفظي في الترجيح ضعيف لا يفيد إلا الظن ، والظن لا يعول عليه في المسائل الأصولية القطعية ; فلهذا اختار الأئمة المحققون من السلف والخلف - بعد إقامة الدليل القاطع على أن حمل اللفظ على ظاهره محال - ترك الخوض في تعيين التأويل . انتهى .

وحسبك بهذا الكلام من الإمام .

التالي السابق


الخدمات العلمية