الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                              الآية السادسة والستون :

                                                                                                                                                                                                              قوله تعالى : { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة والله عزيز حكيم } هذه الآية من أشكل آية في كتاب الله تعالى من الأحكام ، تردد فيها علماء الإسلام ، واختلف فيها الصحابة قديما وحديثا ، ولو شاء ربك لبين طريقها وأوضح تحقيقها ، ولكنه وكل درك البيان إلى اجتهاد العلماء ليظهر فضل المعرفة في الدرجات الموعود بالرفع فيها ; وقد أطال الخلق فيها النفس ، فما استضاءوا بقبس ، ولا حلوا عقدة الجلس ; والضابط لأطرافها ينحصر في إحدى عشرة مسألة :

                                                                                                                                                                                                              المسألة الأولى : ينظمها ثلاثة فصول :

                                                                                                                                                                                                              الفصل الأول : كلمة القرء كلمة محتملة للطهر والحيض احتمالا واحدا ، وبه تشاغل الناس قديما وحديثا من فقهاء ولغويين في تقديم أحدهما على الآخر ; وأوصيكم ألا تشتغلوا الآن بذلك لوجوه ; أقربها أن أهل اللغة قد اتفقوا على أن القرء الوقت ، يكفيك هذا فيصلا بين المتشعبين وحسما لداء المختلفين ; فإذا أرحت نفسك من هذا وقلت : المعنى : والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة أوقات ، صارت الآية مفسرة في العدد محتملة في المعدود ، فوجب طلب بيان المعدود من غيرها ، وقد اختلفنا فيها ; ولنا أدلة ولهم [ ص: 251 ] أدلة استوفيناها في تلخيص الطريقتين على وجه بديع ، وخلصنا بالسبك منها في تخليص التلخيص ما يغني عن جمعه اللبيب ; وأقربها الآن إلى الغرض أن تعرض عن المعاني لأنها بحار تتقامس أمواجها ، وتقبل على الأخبار فإنها أول وأولى ، ولهم خبر ولنا خبر .

                                                                                                                                                                                                              فأما خبرهم ، فقول النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح المشهور : { لا توطأ حامل حتى تضع ، ولا حائل حتى تحيض } .

                                                                                                                                                                                                              والمطلوب من الحرة في استبراء الرحم هو المطلوب من الأمة بعينه ; فنص الشارع صلى الله عليه وسلم على أن براءة الرحم الحيض ، وبه يقع الاستبراء بالواحد في الأمة ، فكذلك فليكن بالثلاثة في الحرة .

                                                                                                                                                                                                              وأما خبرنا فالصحيح الثابت في كل أمر { أن ابن عمر رضي الله عنهما طلق امرأته وهي حائض ، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يراجعها ، ثم يمسكها حتى تحيض وتطهر ، ثم تحيض وتطهر ، ثم إن شاء أمسك وإن شاء طلق ، فتلك العدة التي أمر الله تعالى بها أن يطلق لها النساء } ، وهذا يدل على أن ابتداء العدة طهر فمجموعها أطهار .

                                                                                                                                                                                                              [ والتنقيح ] والترجيح : خبرنا أولى من خبرهم ; لأن خبرنا ظاهر قوي في أن الطهر قبل العدة واحد أعدادها لا غبار عليه ، فأما إشكال خبرهم فيرفعه أن المراد هنالك أيضا هو الطهر ، لكن الطهر لا يظهر إلا بالحيض ; ولذلك قال علماؤنا : إنها تحل بالدم من الحيضة الثالثة .

                                                                                                                                                                                                              [ ص: 252 ] الفصل الثاني : من علمائنا من زاحم على الآية بعدد ، واستند فيها إلى ركن ، وتعلق منها بسبب متين ; قالوا : يصح التعلق بهذه الآية من أربعة أوجه :

                                                                                                                                                                                                              الأول : أن القرء اسم يقع على الحيض والطهر جميعا ، والمراد أحدهما ، فيجب إذا قعدت ثلاثة قروء ينطلق عليها هذا الاسم أن يصح لها قضاء التربص .

                                                                                                                                                                                                              الثاني : أن الحكم يتعلق بأوائل الأسماء كما قلنا في الشفقين واللمسين والأبوين : إن الحكم يتعلق بالشفق الأول ، والوضوء يجب باللمس الأول قبل الوطء ، وإن الحجب يكون للأب الأول دون الثاني وهو الجد ; وهم مخالفون في ذلك كله ، وقد دللنا عليه أجمعه في موضعه .

                                                                                                                                                                                                              الثالث : أنه تعالى قال : { ثلاثة قروء } فذكره وأثبت الهاء في العدد ، فدل على أنه أراد الطهر المذكر ، ولو أراد الحيضة المؤنثة لأسقط الهاء ، وقال : ثلاث قروء ; فإن الهاء تثبت في عدد المذكر من الثلاثة إلى العشرة وتسقط في عدد المؤنث .

                                                                                                                                                                                                              الرابع : أن مطلق الأمر عندنا وعند أصحاب أبي حنيفة محمول على الفور ، ولا يكون ذلك إلا على رأينا في أن القرء الطهر ; لأنه إنما يطلق في الطهر لا في الحيض ، فلو طلق في الطهر ولم تعتد إلا بالحيض الآتي بعده لكان ذلك تراخيا عن الامتثال للأمر ; وهذه الوجوه وإن كانت قوية فإنها تفتح من الأسئلة أبوابا ربما عسر إغلاقها ، فأولى لكم التمسك بما تقدم .

                                                                                                                                                                                                              الفصل الثالث : قالوا : إذا جعلتم الأقراء الأطهار فقد تركتم نص الآية في جعلها ثلاثة ، لأنه لو طلق في طهر لم يمسها فيه قبل الحيض بليلة لكان عندكم قرءا معتدا به وليس بعدد .

                                                                                                                                                                                                              قلنا له : أما إذا بلغنا لهذا المنتهى فالمسألة لنا ، ومأخذ القول في المسألة سهل ; لأن البعض في لسان العرب يطلق على الكل في إطلاق العدد وغيره لغة مشهورة عند العرب ، وقرآنا : قال الله تعالى : { الحج أشهر معلومات } وهي عندنا وعندهم شوال وذو القعدة وبعض ذي الحجة ، فالمخالف إن راعى ظاهر العدد [ ص: 253 ] فمراعاة ظاهر حديث ابن عمر أولى .

                                                                                                                                                                                                              المسألة الثانية : هذه الآية عامة في كل مطلقة ، لكن القرآن خص منها الآيسة والصغيرة في سورة الطلاق بالأشهر ، وخص منها التي لم يدخل بها لقوله تعالى { فما لكم عليهن من عدة تعتدونها } وعرضت هاهنا مسألة رابعة وهي الأمة ، فإن عدتها حيضتان ، خرجت بالإجماع .

                                                                                                                                                                                                              المسألة الثالثة : قال جماعة : قوله تعالى : { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } : خبر معناه الأمر ، وهذا باطل ; بل هو خبر عن حكم الشرع ; فإن وجدت مطلقة لا تتربص فليس من الشرع ، فلا يلزم من ذلك وقوع خبر الله تعالى خلاف مخبره ، وقد بيناه بيانا شافيا .

                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية