الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          غض البصر

                                                          قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء [ ص: 5180 ] ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعا أيه المؤمنون لعلكم تفلحون

                                                          غض البصر هو النقص من النظر؛ بحيث لا يمعن بالنظر؛ ولا يحاول أن يتقصى أطراف من ينظر إليه؛ و " من " ؛ في قوله (تعالى): يغضوا من أبصارهم ؛ إما أن نقول: إنها لتقوى الأمر بالغض؛ أي: غضوا أبصاركم؛ أي غض؛ فلا تمعن في شيء من النساء؛ وإما أن نقول: إنها للتبعيض؛ أي: تغض من بعض بصرك؛ والبعض الذي يغض عنه هو الإمعان والتتبع؛ والاستمرار في النظر حتى تغيب عنه؛ لا ينفلت بنظره عنها؛ فذلك هو المطلوب من الغض؛ أما نظر الفجأة فمعفو عنه؛ ولذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا تتبع النظرة النظرة؛ فإنما الأولى لك والثانية عليك " .

                                                          ولقد قال - صلى الله عليه وسلم - في معنى هذا: " إياكم والجلوس في الطرقات " ؛ فقالوا: ما لنا من مجالسنا بد؛ نتحدث فيها؛ فقال: " فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه " ؛ قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: " غض البصر؛ وكف الأذى؛ ورد السلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " .

                                                          وابتدأ - سبحانه وتعالى - بالأمر بغض البصر؛ لأنه الباب الأكبر إلى القلب؛ ولأن النظرة المريبة ذريعة إلى أكبر الفحش؛ ولأن النظر المحصف يناقض الحياء؛ ولأنه يؤذي النساء؛ فيمنعهن من قضاء شؤونهن خارج منازلهن؛ وما لهن بد من أدائها؛ ولأن غض البصر ينشر اللياقة والحياء العام؛ والحياء خير كله.

                                                          ويحفظوا فروجهم ؛ معطوفة على الأمر بغض الأبصار؛ الذي كان عاما؛ ولذا جمعت الأبصار؛ وذلك لتطهير البيئة الاجتماعية الإنسانية؛ فإن سلامة البيئة تجعل [ ص: 5181 ] الرأي العام صالحا طيبا طاهرا فاضلا؛ يحث على الفضيلة؛ ويمنع الرذيلة؛ وفوق ذلك أمر بحفظ الفروج؛ و " الفروج " ؛ جمع " فرج " ؛ وهو سوءة المرأة؛ وسوءة الرجل؛ وحفظها بسترها؛ ومنعها مما حرم الله (تعالى)؛ وهو الزنا؛ فإن الزنا يعرضها للأمراض الخبيثة؛ ويمنع النسل؛ والفروج تشمل فروج الرجال؛ والنساء معا؛ وخوطب الرجال بحفظ فروج النساء بسترهن؛ ومتعهن بما أحل الله؛ وألا يؤذوهن بالفاحشة؛ وألا يعرضوهن لها؛ ولما حرم الله (تعالى)؛ فالرجل مسؤول عن حشمة النساء؛ وهو الحريص عليهن.

                                                          ذلك أزكى لهم ؛ ذلك؛ وهو غض البصر؛ وحفظ الفروج؛ أطهر لكم؛ فيكون المجتمع طاهرا نقيا سليما؛ والبيوت طاهرة سليمة؛ وهم في ذات أنفسهم أطهارا طيبين؛ ويكونون خيرا في خير؛ يظلهم الخير دائما؛ ويكونون في قبة من الفضيلة تظلهم؛ وتؤدي بهم جميعا إلى جنة الآخرة؛ كما كانوا في ظلة من الفضيلة في الدنيا.

                                                          إن الله خبير بما يصنعون ؛ هذا النص فيه تهديد؛ وتبشير؛ فيه تبشير للأخيار إن استقاموا على الطريقة المستقيمة؛ وفيه إنذار للفجار; لأنه - سبحانه - عليم علما دقيقا بما يصنعه كل واحد من الناس؛ و " يصنعون " ؛ أدق في الدلالة على العمل من " يعملون " ؛ لأن " يصنع " ؛ معناها: يفعله ويصير عادة له؛ كعادة الصانع في صنعته.

                                                          ويلاحظ أن الخطاب كان من الله (تعالى) للنبي؛ ليأمر المؤمنين بأن يغضوا من أبصارهم؛ ويحفظوا فروجهم; لأن ذلك من تبليغ النبي - صلى الله عليه وسلم - [عن] ربه؛ وقد ذكر الله (تعالى) - أولا - غض البصر للرجال؛

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية