الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون ( 86 ) )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : قال يعقوب للقائلين له من ولده : ( تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين ) : لست إليكم أشكو بثي وحزني ، وإنما أشكو ذلك إلى الله .

ويعني بقوله : ( إنما أشكو بثي ) ، ما أشكو همي وحزني إلا إلى الله .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . [ ص: 226 ]

ذكر من قال ذلك :

19709 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج : ( إنما أشكو بثي ) ، قال ابن عباس : " بثي " ، همي .

19710 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : قال يعقوب عن علم بالله : ( إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون ) ، لما رأى من فظاظتهم وغلظتهم وسوء لفظهم له : لم أشك ذلك إليكم ( وأعلم من الله ما لا تعلمون ) .

19711 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبو أسامة ، عن عوف ، عن الحسن : ( إنما أشكو بثي وحزني إلى الله ) قال : حاجتي وحزني إلى الله .

19712 - حدثنا الحسن بن محمد قال : حدثنا هوذة بن خليفة قال : حدثنا عوف ، عن الحسن ، مثله .

وقيل : إن " البث " ، أشد الحزن ، وهو عندي من : " بث الحديث " ، وإنما يراد منه : إنما أشكو خبري الذي أنا فيه من الهم ، وأبث حديثي وحزني إلى الله .

19713 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن عوف ، عن الحسن ، ( إنما أشكو بثي ) ، قال : حزني .

19714 - حدثنا ابن بشار قال : حدثني يحيى بن سعيد ، عن عوف ، عن الحسن : ( إنما أشكو بثي وحزني ) ، قال : حاجتي . [ ص: 227 ]

وأما قوله ( وأعلم من الله ما لا تعلمون ) فإن ابن عباس كان يقول في ذلك فيما ذكر عنه ما : -

19715 - حدثني به محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، في قوله : ( وأعلم من الله ما لا تعلمون ) يقول : أعلم أن رؤيا يوسف صادقة ، وأني سأسجد له .

19716 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السدي قال : ( إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون ) ، قال : لما أخبروه بدعاء الملك ، أحست نفس يعقوب وقال : ما يكون في الأرض صديق إلا نبي ! فطمع قال : لعله يوسف .

19717 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله ) الآية ، ذكر لنا أن نبي الله يعقوب لم ينزل به بلاء قط إلا أتى حسن ظنه بالله من ورائه .

19718 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا حكام ، عن عيسى بن يزيد ، عن الحسن قال : قيل : ما بلغ وجد يعقوب على ابنه؟ قال : وجد سبعين ثكلى! . قال : فما كان له من الأجر؟ قال : أجر مئة شهيد . قال : وما ساء ظنه بالله ساعة من ليل ولا نهار .

19719 - حدثنا به ابن حميد مرة أخرى قال : حدثنا حكام ، عن أبي معاذ ، عن يونس ، عن الحسن ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، مثله .

19720 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن المبارك بن مجاهد ، عن رجل من الأزد ، عن طلحة بن مصرف الإيامي قال : ثلاثة لا تذكرهن واجتنب ذكرهن : لا تشك مرضك ، ولا تشك مصيبتك ، ولا تزك نفسك . قال : [ ص: 228 ] وأنبئت أن يعقوب بن إسحاق دخل عليه جار له ، فقال له : يا يعقوب ما لي أراك قد انهشمت وفنيت ، ولم تبلغ من السن ما بلغ أبوك؟ قال : هشمني وأفناني ما ابتلاني الله به من هم يوسف وذكره! فأوحى الله إليه : يا يعقوب أتشكوني إلى خلقي؟ فقال : يا رب خطيئة أخطأتها ، فاغفرها لي ! قال : فإني قد غفرت لك . وكان بعد ذلك إذا سئل قال : ( إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون ) .

19721 - حدثنا عمرو بن علي قال : حدثني مؤمل بن إسماعيل قال : حدثنا سفيان ، عن حبيب بن أبي ثابت قال : بلغني أن يعقوب كبر حتى سقط حاجباه على وجنتيه ، فكان يرفعهما بخرقة ، فقال له رجل : ما بلغ بك ما أرى؟ قال : طول الزمان وكثرة الأحزان . فأوحى الله إليه : يا يعقوب تشكوني؟ قال : خطيئة فاغفرها .

19722 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا يحيى بن واضح قال : حدثنا ثور بن يزيد قال : دخل يعقوب على فرعون وقد سقط حاجباه على عينيه ، فقال : ما بلغ بك هذا يا إبراهيم؟ فقالوا : إنه يعقوب ، فقال : ما بلغ بك هذا يا يعقوب؟ قال : طول الزمان وكثرة الأحزان . فقال الله : يا يعقوب أتشكوني؟ فقال : يا رب خطيئة أخطأتها ، فاغفرها لي .

19723 - حدثنا عمرو بن علي قال : حدثنا عبد الوهاب قال : حدثنا هشام ، عن ليث بن أبي سليم قال : دخل جبريل على يوسف السجن ، فعرفه ، فقال : أيها الملك الحسن وجهه ، الطيبة ريحه ، الكريم على ربه ، ألا تخبرني عن يعقوب أحي هو؟ قال : نعم . قال : أيها الملك الحسن وجهه ، الطيبة ريحه ، الكريم على ربه ، فما بلغ من حزنه؟ قال : حزن سبعين مثكلة . قال : أيها الملك الحسن وجهه ، الطيبة ريحه ، الكريم على ربه ، فهل في ذلك من أجر؟ قال : أجر مئة شهيد . [ ص: 229 ]

19724 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد قال : حدثت أن جبريل أتى يوسف صلى الله عليه وسلم وهو بمصر في صورة رجل ، فلما رآه يوسف عرفه ، فقام إليه فقال : أيها الملك الطيب ريحه ، الطاهر ثيابه ، الكريم على ربه ، هل لك بيعقوب من علم؟ قال : نعم! قال : أيها الملك الطاهر ثيابه ، الكريم على ربه ، فكيف هو؟ قال : ذهب بصره . قال : أيها الملك الطاهر ثيابه ، الكريم على ربه ، وما الذي أذهب بصره؟ قال : الحزن عليك . قال : أيها الملك الطيب ريحه ، الطاهر ثيابه ، الكريم على ربه ، فما أعطي على ذلك؟ قال : أجر سبعين شهيدا .

19725 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال أبو شريح : سمعت من يحدث أن يوسف سأل جبريل : ما بلغ من حزن يعقوب؟ قال : حزن سبعين ثكلى . قال : فما بلغ أجره؟ قال : أجر سبعين شهيدا .

19726 - . . . قال : أخبرنا ابن وهب قال : أخبرني نافع بن يزيد ، عن عبيد الله بن أبي جعفر قال : دخل جبريل على يوسف في البئر أو في السجن ، فقال له يوسف : يا جبريل ، ما بلغ حزن أبي؟ قال : حزن سبعين ثكلى . قال : فما بلغ أجره من الله؟ قال : أجر مئة شهيد .

19727 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال : حدثني عبد الصمد بن معقل قال : سمعت وهب بن منبه يقول : أتى جبريل يوسف بالبشرى وهو في السجن . فقال : هل تعرفني أيها الصديق؟ قال : أرى صورة طاهرة وروحا طيبة لا تشبه أرواح الخاطئين . قال : فإني رسول رب العالمين ، وأنا الروح الأمين . قال : فما الذي أدخلك على مدخل المذنبين ، وأنت أطيب الطيبين ، ورأس المقربين ، وأمين رب العالمين؟ قال : ألم تعلم يا يوسف أن الله يطهر البيوت بطهر النبيين ، وأن الأرض التي يدخلونها هي أطهر الأرضين ، [ ص: 230 ] وأن الله قد طهر بك السجن وما حوله يا أطهر الطاهرين وابن المطهرين؟ إنما يتطهر بفضل طهرك وطهر آبائك الصالحين المخلصين! قال : كيف لي باسم الصديقين ، وتعدني من المخلصين ، وقد أدخلت مدخل المذنبين ، وسميت في الضالين المفسدين؟ قال : لم يفتتن قلبك ، ولم تطع سيدتك في معصية ربك ، ولذلك سماك الله في الصديقين ، وعدك من المخلصين ، وألحقك بآبائك الصالحين . قال : لك علم بيعقوب أيها الروح الأمين؟ قال : نعم ، وهبه الله الصبر الجميل ، وابتلاه بالحزن عليك ، فهو كظيم . قال : فما قدر حزنه؟ قال : حزن سبعين ثكلى . قال : فماذا له من الأجر يا جبريل؟ قال : قدر مئة شهيد .

19728 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن ليث ، عن ثابت البناني قال : دخل جبريل على يوسف في السجن ، فعرفه يوسف قال : فأتاه فسلم عليه ، فقال : أيها الملك الطيب ريحه ، الطاهر ثيابه ، الكريم على ربه ، هل لك من علم بيعقوب؟ قال : نعم . قال : أيها الملك الطيب ريحه ، الطاهر ثيابه ، الكريم على ربه ، هل تدري ما فعل؟ قال : ابيضت عيناه . قال : أيها الملك الطيب ريحه ، الطاهر ثيابه ، الكريم على ربه ، مم ذاك؟ قال : من الحزن عليك . قال : أيها الملك الطيب ريحه ، الطاهر ثيابه ، الكريم على ربه ، وما بلغ من حزنه؟ قال : حزن سبعين مثكلة . قال : أيها الملك الطيب ريحه ، الطاهر ثيابه ، الكريم على ربه ، هل له على ذلك من أجر؟ قال : نعم أجر مئة شهيد .

19729 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السدي قال : أتى جبرئيل يوسف وهو في السجن فسلم عليه ، وجاءه في صورة رجل حسن [ ص: 231 ] الوجه طيب الريح نقي الثياب ، فقال له يوسف : أيها الملك الحسن وجهه ، الكريم على ربه ، الطيب ريحه ، حدثني كيف يعقوب؟ قال : حزن عليك حزنا شديدا . قال : وما بلغ من حزنه؟ قال : حزن سبعين مثكلة . قال : فما بلغ من أجره؟ قال : أجر سبعين أو مئة شهيد . قال يوسف : فإلى من أوى بعدي؟ قال : إلى أخيك بنيامين . قال : فتراني ألقاه أبدا؟ قال : نعم . فبكى يوسف لما لقي أبوه بعده ، ثم قال : ما أبالي ما لقيت إن الله أرانيه .

19730 - . . . قال : حدثنا عمرو بن محمد ، عن إبراهيم بن يزيد ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة قال : أتى جبريل يوسف وهو في السجن ، فسلم عليه ، فقال له يوسف ، أيها الملك الكريم على ربه ، الطيب ريحه ، الطاهر ثيابه ، هل لك من علم بيعقوب؟ قال : نعم ما أشد حزنه ! قال : أيها الملك الكريم على ربه ، الطيب ريحه ، الطاهر ثيابه ، ماذا له من الأجر؟ قال : أجر سبعين شهيدا . قال : أفتراني لاقيه؟ قال : نعم . قال : فطابت نفس يوسف .

19731 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن ليث ، عن سعيد بن جبير قال : لما دخل يعقوب على الملك وحاجباه قد سقطا على عينيه ، قال الملك : ما هذا؟ قال : السنون والأحزان ، أو : الهموم والأحزان ، فقال ربه : يا يعقوب لم تشكوني إلى خلقي ، ألم أفعل بك وأفعل؟

19732 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا الثوري ، عن عبد الرحمن بن زياد ، عن مسلم بن يسار يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال : من بث لم يصبر ثم قرأ : ( إنما أشكو بثي وحزني إلى الله ) .

19733 - حدثني عمرو بن عبد الحميد الآملي قال : حدثنا أبو أسامة ، [ ص: 232 ] عن هشام ، عن الحسن قال : كان منذ خرج يوسف من عند يعقوب إلى يوم رجع ثمانون سنة ، لم يفارق الحزن قلبه ، يبكي حتى ذهب بصره . قال الحسن : والله ما على الأرض يومئذ خليقة أكرم على الله من يعقوب صلى الله عليه وسلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية