الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          الماء وأثره في الوجود

                                                          قال الله (تعالى): والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شيء قدير لقد أنـزلنا آيات مبينات والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون

                                                          [ ص: 5208 ] ذكر الله - سبحانه وتعالى - في الآيات السابقة الماء في تشبيه أعمال الكافرين؛ والماء العذب في تكوينه؛ وذكر معه إنزاله على من يصيبه؛ ونعمته في صرفه عنه إن لم تكن الأرض صالحة للزرع؛ حتى لا يكون غثيا بدل أن يكون غيثا؛ فكان في هذه الآية مبينا لنعمة الماء في الحياة والأحياء بشكل عام؛ كما قال (تعالى) - في كتابه العزيز -: وجعلنا من الماء كل شيء حي ؛ وذلك يعم الحيوان والنبات؛ والأشجار؛ من كل حي؛ وهنا يخص الأحياء من الحيوان؛ فيقول - عز من قائل -:والله خلق كل دابة من ماء ؛ وصدر الآية الكريمة بلفظ الجلالة؛ للإشارة إلى اختصاصه بالعبادة؛ لأن لفظ الجلالة يتضمن معنى الألوهية؛ وكل ما يذكر بعد ذلك من خلقه يكون دليل ألوهيته - سبحانه -؛ فالمخلوق يدل على الخالق؛ وكذلك كل عبادة سامية لله - جل جلاله -؛ ودلت على الخلق؛ يكون فيها هذا المعنى الجليل.

                                                          والدابة من " دب؛ يدب " ؛ واسم الفاعل: " الداب " ؛ وألحقت به التاء للدلالة على المبالغة؛ وهي تشمل الحيوان جميعا؛ فكل حيوان يدب على الأرض؛ ويسير عليها؛ بقدرة الله (تعالى)؛ وخلقها من الماء معناه أن الماء من الأسباب الجوهرية لحياتها بخلق الله (تعالى) وإرادته؛ والماء مصدر حياتها بإذن الله وتمكينه وجعله؛ لأن الماء ريها؛ ولا يحيا الحي إلا بشربه؛ وغذاء الحيوان كله؛ مما ينبت من زرع؛ ويغرس من أشجار فيها ثمار مختلفة؛ حتى الحيوانات آكلة اللحوم غذاؤها يعود إلى الماء; لأنها تتغذى من النبات؛ والحيوان - كله آكلا ومأكولا - من النبات؛ كما قال (تعالى): يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل

                                                          فالحيوان من الماء؛ بل الأحياء كلها من حيوان ونبات؛ من الماء؛ والفرق بين الحيوان والنبات أن النبات غذاؤه من الماء مباشرة؛ والحيوان يرتوي من الماء؛ ويأخذ غذاءه من النبات الذي كان تكوينه من الماء.

                                                          وبين - سبحانه وتعالى - تنوع خلقه في الحيوان؛ لبيان عدم التفرقة في الخلق بين حيوان يمشي على بطنه زاحفا؛ وبين حيوان على رجلين سائرا؛ وما يمشي على أربع؛ [ ص: 5209 ] فقال - عز من قائل -: فمنهم من يمشي على بطنه ؛ كالحيات والديدان؛ وغيرها من الزواحف؛ ومنهم من يمشي على رجلين؛ كالإنسان والطيور؛ ومنهم من يمشي على أربع كالإبل والبقر والغنم؛ والفيل؛ والذئب؛ والأسد؛ والكلب؛ وهنا ثلاث ملاحظات؛ أولاها: أن الفاء هنا للإفصاح؛ فهي بيان؛ أو جواب لشرط محذوف؛ الثانية: التعبير بـ " من " ؛ وهي تشمل العقلاء؛ وغير العقلاء؛ وقالوا: إنها إذا كانت للعموم؛ جاز التعبير بـ " من " ؛ عن الجميع؛ وذلك تعبير عن الأعظم؛ والأكمل حيوانية؛ كما يعبر عن الجمع الذي يشمل الذكور والإناث بلفظ الذكور؛ ثالثها: أن من الحيوان من يكون ذا أرجل أكثر من أربع؛ ولم يذكر؛ أو يشر إليه؛ والجواب عن ذلك أن ذا الأرجل الكثيرة مشار إلى أربع منها؛ فهو مذكور؛ أو نقول: إن الآية لم تذكر الكل؛ أو أشير بذكر الأربع سيرا؛ للاطراد بالزيادة؛ فذكر - أولا - ما لا رجل له؛ ثم ما له رجلان؛ ثم ما له أربع؛ ثم بالإشارة ما له أكثر؛ وخصوصا أن الله (تعالى) ختم الآية بقوله (تعالى): يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شيء قدير ؛ فإن ذلك يشير إلى أنه يخلق الأكثر من أربع؛ كما يشاء؛ وهو قادر على كل شيء.

                                                          وهذه كلها آيات دالة على ألوهية الله - جل جلاله - وحده؛ وأنه لا يهتدي إلى الوحدانية مع قيام دلائلها إلا من سار على الطريق؛ واستقام على الجادة؛ فيأخذه الله (تعالى) إلى الهداية؛ ولذا قال (تعالى):

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية