الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                        1384 [ ص: 42 ] ( 43 ) باب ما يجوز من السلف .

                                                                                                                        1346 - مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي رافع مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ; أنه قال : استسلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكرا ، فجاءته إبل من الصدقة ، قال أبو رافع : فأمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أقضي الرجل بكره ، فقلت : لم أجد في الإبل إلا جملا خيارا رباعيا ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أعطه إياه ، فإن خيار الناس أحسنهم قضاء " .

                                                                                                                        [ ص: 43 ] 1347 - مالك ، عن حميد بن قيس المكي ، عن مجاهد ; أنه قال : استسلف عبد الله بن عمر من رجل دراهم ، ثم قضاه دراهم خيرا منها ، فقال الرجل : يا أبا عبد الرحمن ، هذه خير من دراهمي التي أسلفتك ، فقال عبد الله بن عمر : قد علمت : ولكن نفسي بذلك طيبة .

                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                        30338 - قال أبو عمر : أما القول في حديث زيد بن أسلم المكتوب في أول هذا الباب ، وما فيه من المعاني ; فمعلوم أن رسول - الله صلى الله عليه وسلم - لم يكن يأكل من الصدقة ، وإنما كانت محرمة عليه ، لا تحل له ، وفي ذلك دليل على أن استسلافه الجمل البكر المذكور في هذا الحديث لم يكن لنفسه ; لأنه قضاه من إبل الصدقة ; وإذا كان ذلك كذلك صح أنه إنما استسلفه الجمل لمساكين بلدة ; لما رأى من شدة حاجتهم ، فاستقرضه عليهم ، ثم رده من إبل الصدقة ، كما يستقرض ولي اليتيم عليه نظرا له ، ثم يرده من ماله إذا طرأ له مال ، وهذا كله لا تنازع فيه والحمد لله .

                                                                                                                        [ ص: 44 ] 30339 - وقد اختلف العلماء في حال المستقرض منه الجمل البكر المذكور في هذا الحديث :

                                                                                                                        30340 - فقال منهم قائلون : لم يكن المستقرض منه ممن تجب عليه صدقة ، ولا تلزمه زكاة عند انقضاء الحول ، إما لجائحة لحقت ماله قبل الحول ، فصار المال لغيره ، أو لغير ذلك من الأسباب المانعة للزكاة ; لأنه قد رد عليه صدقته ولم يحتسب له بها ، وكان وقت أخذ الصدقات وخروج السعاة وقتا واحدا يستوي الناس فيه ، واستوفى منه أصحاب المواشي ، فلما لم يحتسب له بما أخذ منه صدقة علم أنه لم يكن تلزمه صدقة في ماشيته في ذلك الحول الذي له أخذت صدقته ، إما لقصور نصابه بالآفة الداخلة على ماشيته قبل تمام حوله ، أو بغير ذلك مما قد وصفنا بعضه فوجب رد ما أخذ منه إليه .

                                                                                                                        30341 - ومثال الاستسلاف في هذا الموضع أن يقول الإمام للرجل : أقرضني على زكاتك لأهلها ، فإن وجبت عليه زكاة بتمام ملكك النصاب حولا ، فذلك وإلا فهو دين لك أرده عليك من الصدقة .

                                                                                                                        30342 - وهذا كله على مذهب من أجاز تعجيل الزكاة قبل وقت وجوبها بحول واحد .

                                                                                                                        [ ص: 44 ] 3 4 303 - وممن ذهب إلى ذلك : سفيان الثوري ، والأوزاعي ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وأبو ثور ، وإسحاق ، وأبو عبيد .

                                                                                                                        30344 - وروي ذلك عن إبراهيم ، وابن شهاب ، والحكم بن عتيبة ، وابن أبي ليلى .

                                                                                                                        30345 - وقال أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد : يجوز تعجيل الزكاة لما في يده ، ولما يستفيده في الحول وبعده لسنين .

                                                                                                                        30346 - وقال : التعجيل عما في يده جائز ، ولا يجوز عما يستفيده .

                                                                                                                        30347 - وقال ابن شبرمة : يجوز تعجيل الزكاة لسنين .

                                                                                                                        30348 - وقال مالك ، وأصحابه لا يجوز تعجيل الزكاة قبل الحول إلا بيسير .

                                                                                                                        30349 - والشهر ونحوه عندهم يسير .

                                                                                                                        30350 - وقالت طائفة : لا يجوز تعجيل الزكاة قبل محلها بيسير ، ولا كثير ، ومن عجلها قبل محلها لم يجزئه ، وكان عليه إعادتها كالصلاة .

                                                                                                                        30351 - روي ذلك عن الحسن البصري .

                                                                                                                        [ ص: 46 ] 30352 - وروى خالد بن خداش ، عن مالك مثله .

                                                                                                                        30353 - واختلف على أشهب في الرواية عن مالك في ذلك : فروي عنه مثل رواية خالد بن خداش أنه لا يجوز تقديم الزكاة قبل وقتها بقليل ، ولا كثير كالصلاة .

                                                                                                                        وروي عنه مثل رواية ابن القاسم .

                                                                                                                        30354 - واختلف أصحاب داود على القولين جميعا : قول من أجاز تعجيلها ، وقول من لم يجز .

                                                                                                                        [ ص: 47 ] 30355 - ومن حجة من قال : إنه لا يجوز تعجيل الزكاة قبل وجوبها ، فالقياس لها على الصلاة ، وعلى سائر ما يجب مؤقتا كالحج ، وعرفة ، ورمضان وما أشبه ذلك من المؤقتات التي لا يجوز عملها قبل أوقاتها ، وأزمانها .

                                                                                                                        30355 م - ومن أجاز تعجيلها قبل سنتها قاسها على الديون المؤجلة ; لأنه لا خلاف في جواز تعجيلها قبل إحالها إذا تبرع بذلك .

                                                                                                                        30356 - وفرق بين الصلاة والزكاة ; بأن الصلاة يستوي الناس كلهم في وقتها ، وليس كذلك أوقات الزكاة ; لأن حول زيد في الزكاة غير حول عمرو ، وأحوال الناس في ذلك مختلفة ، فلم تشبه الصلاة ; لما وصفنا .

                                                                                                                        30357 - وأما من أبى جواز تعجيل الصدقة فقد تأول حديث أبي رافع المذكور في أول هذا الباب أن ذلك كان قبل تحريم الصدقة على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله ، وعلى الأغنياء .

                                                                                                                        30358 - ودليل ذلك أنه لو كان استقرض على المساكين لم يرد من أموالهم أكثر مما أخذ لهم .

                                                                                                                        30359 - ودليل آخر : أن المستقرض منه غني ، فكيف يجوز أن يعطيه من أموال المساكين أكثر مما استقرض منه ، وهو غني لا تحل له الصدقة ؟ .

                                                                                                                        [ ص: 48 ] 30360 - وقد ذكرنا احتجاج الفريقين فيما ذهب كل منهما إليه وتأويله في هذا الحديث المذكور في كتاب " التمهيد " .

                                                                                                                        30361 - وفي هذا الحديث أيضا إثبات الحيوان دين في الذمة من جهة الاستقراض ، وهو الاستسلاف .

                                                                                                                        30362 - وإذا جاز استقراض الحيوان في الذمة من جهة الاستقراض - وهو الاستسلاف - جاز السلم فيه ; لأنه عرض يثبت في الذمة بصفة معلومة .

                                                                                                                        30363 - وقد ذكرنا اختلاف الفقهاء في السلم في الحيوان فيما مضى من هذا الكتاب ، والحمد لله كثيرا .




                                                                                                                        الخدمات العلمية