الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            باب استحلاف المدعى عليه في الأموال والدماء وغيرهما

                                                                                                                                            3934 - ( عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم { قضى باليمين على المدعى عليه } متفق عليه .

                                                                                                                                            وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم ، ولكن اليمين على المدعى عليه } رواه أحمد ومسلم ) .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            قوله : ( قضى باليمين على المدعى عليه ) اختلف الفقهاء في تعريف المدعي والمدعى عليه ، قال في الفتح : والمشهور فيه تعريفان : الأول أن المدعي من تخالف دعواه الظاهر ، والمدعى عليه بخلافه . والثاني من إذا سكت ترك وسكوته ، والمدعى عليه من لا يخلى إذا سكت . والأول أشهر والثاني أسلم . وقد أورد على الأول بأن المودع إذا ادعى الرد أو التلف فإن دعواه تخالف الظاهر ومع ذلك فالقول قوله

                                                                                                                                            واستدل بالحديث على أن اليمين على المدعى عليه ، وقد ذهب إلى ذلك الجمهور وحملوه على عمومه في حق كل أحد سواء كان بين المدعي والمدعى عليه اختلاط أم لا . وعن مالك لا تتوجه اليمين إلا على من بينه وبين المدعي اختلاط لئلا يبتذل أهل السفه أهل الفضل بتحليفهم مرارا . وقريب من مذهب مالك قول الإصطخري من الشافعية : أن قرائن الحال إذا شهدت بكذب المدعي لم يلتفت إلى دعواه . قوله : ( لو يعطى الناس . . . إلخ ) هذا هو وجه الحكمة [ ص: 351 ] في جعل اليمين على المدعى عليه . وقال جماعة من أهل العلم : الحكمة في ذلك أن جانب المدعي ضعيف لأنه يقول بخلاف الظاهر فكلف الحجة القوية وهي البينة لأنها لا تجلب لنفسها نفعا ولا تدفع عنها ضررا فيقوى بها ضعف المدعي . وأما جانب المدعى عليه فهو قوي لأن الأصل فراغ ذمته فاكتفى فيه باليمين وهي حجة ضعيفة لأن الحالف يجلب لنفسه النفع ويدفع عنها الضرر فكان ذلك في غاية الحكمة

                                                                                                                                            وقد أخرج الحديث البيهقي بإسناد صحيح كما قال الحافظ بلفظ : { البينة على المدعي واليمين على من أنكر } وزعم الأصيلي أن قوله : " البينة . . . إلخ " إدراج في الحديث . وأخرج ابن حبان عن ابن عمر نحوه . وأخرج الترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده نحوه . وأخرجه أيضا الدارقطني بإسناد فيه مسلم بن خالد الزنجي وهو ضعيف .

                                                                                                                                            وظاهر أحاديث الباب أن اليمين على المنكر والبينة على المدعي ، ومن كانت اليمين عليه فالقول قوله مع يمينه ، ولكنه ورد ما يدل على أنه إذا اختلف البيعان فالقول قول البائع فأخرج أبو داود والنسائي من حديث الأشعث سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { إذا اختلف البيعان ليس بينهما بينة فهو ما يقول رب السلعة أو يتتاركان } وأخرجه أيضا الترمذي وابن ماجه من حديث عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن مسعود . قال الترمذي : هذا مرسل ، عون بن عبد الله لم يدرك ابن مسعود انتهى . قال المنذري : في إسناده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ولا يحتج به ، وعبد الرحمن لم يسمع من أبيه فهو منقطع وقد روي هذا الحديث من طرق عن عبد الله بن مسعود كلها لا تصح . قال البيهقي : وأصح إسناد روي في هذا الباب رواية أبي العميس عن عبد الرحمن بن قيس بن محمد بن الأشعث عن أبيه عن جده ، وقد تقدم الكلام على هذا الحديث في كتاب البيوع في باب ما جاء في اختلاف المتبايعين بما هو أبسط من هذا ، وبين أحاديث الباب وهذه الأحاديث عموم وخصوص من وجه ، فظاهر أحاديث الباب أن اليمين على المدعى عليه فيكون القول قوله من غير فرق بين كونه بائعا أم لا ما لم يكن مدعيا ، فإن كان كذلك فعليه البينة فلا يكون القول قوله . وظاهر الأحاديث المتقدمة في كتاب البيع أن القول قول البائع وذلك يستلزم أنه لا بينة عليه بل عليه اليمين فقط سواء كان مدعيا أو مدعى عليه

                                                                                                                                            وقد وقع التصريح باستحلاف البائع كما تقدم في رواية في البيع ، فمادة التعارض حيث كان البائع مدعيا ، والواجب في مثل ذلك الرجوع إلى الترجيح ، وأحاديث الباب أرجح فيكون القول ما يقوله البائع ما لم يكن مدعيا . فإن قيل الجمع ممكن بجعل الأحاديث الواردة في المتبايعين مخصصة لعموم أحاديث الباب فيبنى العام على الخاص ويكون القول قول البائع مطلقا ، سواء كان مدعيا أو مدعى عليه إذا كان التنازع بينه وبين المشتري ، وما عدا البائع ، فإن كان مدعيا فعليه [ ص: 352 ] البينة ، وإن كان مدعى عليه فالقول قوله مع يمينه . قلت : هذا متوقف على أمرين : أحدهما : أن أحاديث الباب أعم مطلقا من أحاديث اختلاف المتبايعين . والثاني : أن أحاديث اختلاف البيعين صالحة للاحتجاج بها منتهضة لتخصيص أحاديث الباب ، وفي كلا الأمرين نظر . أما الأول فلأن التخصيص إنما يكون بإخراج فرد من العام عن الأمر المحكوم به عليه ، والعام ههنا هو المدعى عليه ، والمحكوم به عليه هو وجوب اليمين عليه

                                                                                                                                            وحديث اختلاف البيعين له صورتان : إحداهما : أن يكون البائع مدعى عليه ، والثانية : أن يكون مدعيا ، والأولى موافقة للعام داخلة تحت حكمه غير مستثناة منه ، والثانية مخالفة للعام ; لأن العام هو باعتبار المدعى عليه ، وهذا مدع لا مدعى عليه فهو مخالف له ، فلا يصح أن يقال بأنه مخصص له وإن كان التخصيص بالنسبة إلى عموم الأحاديث الدالة على وجوب البينة على المدعي . ووجه التخصيص أن يقال : هذا مدع ولم تجب عليه البينة فهذا مستقيم وإن لم يدعه القائل بالتخصيص ، ولكن حديث " فالقول ما يقول البائع " مع قوله في بعض ألفاظ الحديث كما تقدم في البيع : أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر البائع أن يستحلف هو أعم من الأحاديث القاضية بوجوب البينة على المدعي من وجه لشموله لصورة أخرى وهي حيث كان البائع مدعى عليه ، فالأظهر العموم والخصوص من وجه لا مطلقا

                                                                                                                                            وأما الثاني فقد عرفت عدم انتهاض الأحاديث المذكورة للتخصيص لما فيها من المقال .




                                                                                                                                            الخدمات العلمية