الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 184 ] ( ( و ) ) كذا وقوف الخلق لأجل ( ( الميزان ) ) اعلم أن مراتب المعاد البعث والنشور ثم المحشر ، ثم القيام لرب العالمين ، ثم العرض ، ثم تطاير الصحف وأخذها باليمين وأخذها بالشمال ، ثم السؤال والحساب ، ثم الميزان ( ( بالثواب ) ) أي ثواب الأعمال الصالحة ، وعن السيئات الفاضحة قال علماؤنا كغيرهم :

نؤمن بأن الميزان الذي توزن به الحسنات والسيئات حق ، قالوا : وله لسان وكفتان توزن به صحائف الأعمال ، قال ابن عباس - رضي الله عنهما : توزن الحسنات في أحسن صورة ، والسيئات في أقبح صورة .

قال العلامة الشيخ مرعي في بهجته :

الصحيح أن المراد بالميزان الميزان الحقيقي لا مجرد العدل خلافا لبعضهم .

وقال القرطبي في تذكرته :

قال العلماء : إذا انقضى الحساب كان بعده وزن الأعمال ؛ لأن الوزن للجزاء ، فينبغي أن يكون بعد المحاسبة لتقرير الأعمال والوزن لإظهار مقاديرها ليكون الجزاء بحسبها ، قال الله تعالى : ( ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين ) ، وقال تعالى : ( فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية وأما من خفت موازينه فأمه هاوية وما أدراك ما هيه نار حامية ) ، والحاصل أن الإيمان بالميزان كأخذ الصحف ثابت بالكتاب والسنة والإجماع ، فالكتاب ما ذكرناه ، وقوله تعالى ( وأما من خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم ) إلى غير ذلك من الآيات ، وروي أن داود عليه السلام سأل ربه أن يريه الميزان ، فلما رآه غشي عليه ، فلما أفاق قال : إلهي من ذا الذي يقدر بملأ كفة حسناته ؟ فقال :

إذا رضيت عن عبدي ملأتها بتمرة . ذكره الرازي والثعلبي .

وقال عبد الله بن سلام - رضي الله عنه : إن ميزان رب العالمين ينصب للجن والإنس ، يستقبل به العرش ، إحدى كفتيه على الجنة ، والأخرى على جهنم ، لو وضعت السماوات والأرض في إحداهما لوسعتهن ، وجبريل آخذ بعموده ينظر إلى لسانه .

قال في البهجة في هذا : إن أعمال الجن توزن كما توزن أعمال الإنس ، وهو كذلك ارتضاه الأئمة .

قال القرطبي في تذكرته :

المتقون توضع حسناتهم في الكفة النيرة حتى [ ص: 185 ] لا ترتفع ، وترفع المظلمة ارتفاع الفارغة الخالية ، قال : وأما الكفار فيوضع كفرهم وأوزارهم في الكفة المظلمة ، وإن كانت لهم أعمال بر وضعت في الكفة الأخرى فلا تقاومها إظهارا بفضل المتقين وذل الكافرين ، والحق أن الكفار لا يقيم الله لهم وزنا ، لقوله تعالى : ( فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ) ، ومن قال : توزن أعمالهم لوروده في ظواهر عموم الآيات والأحاديث يجيب عن الآية الكريمة بأنه تعالى لا يقيم لهم وزنا نافعا كما في قوله :

( وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا ) أي كالهباء في عدل نفعه ، وحصول فائدته .

والحق أن مؤمني الجن كالإنس في الوزن ، وكافرهم ككافرهم .

وأخرج الحاكم وصححه من حديث سلمان الفارسي - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " يوضع الميزان يوم القيامة فلو وزن فيه السماوات والأرض لوسعهن ، فتقول الملائكة : يا رب لمن يزن هذا ؟ فيقول : لمن شئت من خلقي ، فتقول الملائكة سبحانك ما عبدناك حق عبادتك "

وأخرجه الإمام عبد الله بن المبارك في الزهد ، والآجري في الشريعة عن سلمان موقوفا .

وأخرج البزار والبيهقي في البعث عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " يؤتى بابن آدم يوم القيامة فيوقف بين كفة الميزان ، ويوكل به ملك ، فإن ثقل ميزانه نادى الملك بصوت يسمع الخلائق :

سعد فلان ابن فلان سعادة لا يشقى بعدها أبدا ، وإن خف ميزانه نادى الملك بصوت يسمع الخلائق :

ألا شقي فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبدا
" ، وذكر الثعلبي وغيره ، وابن جرير في تفسيره ، وابن أبي الدنيا عن حذيفة - رضي الله عنه - أنه قال :

صاحب الميزان يوم القيامة جبريل عليه السلام . وقال الحسن هو ميزان له كفتان ، ولسان وهو بيد جبريل عليه السلام . وأخرج أبو الشيخ بن حيان في تفسيره من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال :

الميزان له لسان وكفتان . فقد دلت الآثار على أنه ميزان حقيقي ذو كفتين ولسان كما قال ابن عباس والحسن البصري ، وصرح بذلك علماؤنا والأشعرية وغيرهم ، وقد بلغت أحاديثه مبلغ التواتر ، وانعقد إجماع أهل الحق من المسلمين عليه ، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال :

يحاسب الناس يوم القيامة [ ص: 186 ] فمن كانت حسناته أكثر من سيئاته بواحدة دخل الجنة ، ومن كانت سيئاته أكثر من حسناته بواحدة دخل النار .

قال : وإن الميزان يخف بمثقال حبة ويرجح ، ومن استوت حسناته وسيئاته كان من أصحاب الأعراف فوقفوا على الصراط .

وأخرج الإمام أحمد في الزهد من طريق رباح بن زيد عن أبي الجراح عن رجل يقال له حازم ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نزل عليه جبريل وعنده رجل يبكي ، فقال : " من هذا ؟ قال : فلان ، قال جبريل : أنا أزن أعمال بني آدم كلها إلا البكاء ، فإن الله يطفئ بالدمع بحورا من نيران جهنم " .

وأخرج البيهقي عن مسلم بن يسار قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( ما اغرورقت عين بمائها إلا حرم الله ذلك الجسد على النار ، ولا سالت قطرة على خدها فيرهق ذلك الوجه قتر ولا ذلة ، ولو أن باكيا بكى في أمة من الأمم لرحموا ، وما من شيء إلا له مقدار وميزان إلا الدمعة فإنها يطفأ بها بحار من نار ) ، وأخرج الترمذي وحسنه من حديث أنس - رضي الله عنه - قال : سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يشفع لي يوم القيامة ، فقال :

" أنا فاعل إن شاء الله " قلت :

أين أطلبك ؟ قال :

" أول ما تطلبني على الصراط " قلت :

فإن لم ألقك على الصراط قال :

" فاطلبني عند الميزان " قلت ، فإن لم ألقك عند الميزان قال : " فاطلبني عند الحوض ، فإني لا أخطئ الثلاث مواطن "
ورواه البيهقي في البعث وغيره .

التالي السابق


الخدمات العلمية