الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          الإيمان الحق

                                                          قال (تعالى): إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ألا إن لله ما في السماوات والأرض قد يعلم ما أنتم عليه ويوم يرجعون إليه فينبئهم بما عملوا والله بكل شيء عليم

                                                          [ ص: 5234 ] ابتدأت السورة الكريمة بقوله (تعالى): سورة أنـزلناها وفرضناها وأنـزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون ؛ وأنزل - سبحانه وتعالى - ما يكون وقاية للأسر من عقوبات للزناة؛ والذين يرمون المحصنات الأطهار؛ ويريدون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا؛ وبينت أمرا أهم المسلمين جميعا؛ وهو حديث الإفك؛ ثم تكلمت في نور الإيمان وظلمات الكفر؛ ثم تكلمت على عورات الأسرة في داخلها وحماية آحادها؛ وانتقلت السورة من حماية الأسرة إلى حماية الجماعة المؤمنة؛ وحمايتها بطاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيا؛ وطاعة الإمام العادل الذي يخلفه بشورى المؤمنين؛ واختيارهم من بعده؛ فقال (تعالى): إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه ؛ " إنما " ؛ هنا أداة قصر؛ أي أن المؤمنين حقا وصدقا وحدهم دون غيرهم هم الذين يؤمنون بالله ورسوله؛ إيمان إذعان وتسليم؛ لا إسلام تردد أو تمرد؛ كضعاف الإيمان المنافقين الذين في قلوبهم مرض النفاق؛ وهو أشد أمراض القلوب؛ بل إنه داؤها الدوي؛ وأن يكون في حال تظلهم؛ ولا يخرجون عنها؛ وهذه الحال التي عبر عنها - سبحانه - بقوله: وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه ؛ أي: إذا كانوا مع الرسول على أمر جامع لهم؛ كشورى في مصلحة تهم المؤمنين؛ أو دفع ضرر يعمهم إن وقع؛ أو مداهمة عدو يغير عليهم؛ أو الخروج لغزوات اضطرت الأحوال للخروج إليها؛ كغزوة تبوك؛ أو نحو ذلك؛ يجتمعون حوله لمبادلة النظر؛ ثم يذهبون إليه مجتمعين على كلمة الحق؛ وأمر الرسول؛ وقد عبر الله (تعالى) عن ذلك بقوله: لم يذهبوا حتى يستأذنوه ؛ فإن هذا الكلام يتضمن اجتماعهم؛ كأنه مطوى كلمة " اجتمعوا " ؛ ويكون سياق الكلام - ولكلام الله (تعالى) المثل الأعلى -: وإذا كانوا معه على أمر جامع ودعاهم؛ اجتمعوا له؛ ولم يذهبوا حتى يستأذنوه؛ أي: يدخلون في الأمر الجامع مجتمعين؛ غير متفرقين؛ وقوله (تعالى): [ ص: 5235 ] " لم يذهبوا " ؛ " لم " ؛ لنفي الماضي؛ وهذا دليل على أنهم اجتمعوا معه؛ فهو عطف نفي في الماضي؛ على اجتماع قبله.

                                                          وما حدود الأمر الجامع؟ حاول أن يضبطه القرطبي؛ فقال - نقلا من بعض الأقوال -: المراد به ما للإمام من حاجة إلى جمع الناس لإذاعة مصلحة؛ من إقامة سنة في الدين؛ أو لترهيب عدو باجتماعهم؛ وللحروب؛ قال (تعالى): وشاورهم في الأمر ؛ فإذا كان أمر يشملهم نفعه وضره؛ جمعهم للتشاور في ذلك.

                                                          وخلاصة هذا القول؛ والأقوال التي ساقها من بعد أن يكون أمرا عاما يجمعهم ليتشاور فيه معهم؛ إذ يكون له أثر في الناس من بعد؛ ولعلاج حال قائمة؛ وإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك؛ كما شاورهم في غزوة " أحد " ؛ وفي غزوة " الخندق " ؛ وكما جمعهم لغزوة " تبوك " ؛ وكان خلفاؤه كذلك من بعده؛ فجمعهم أبو بكر لمقاومة الردة؛ وجمعهم عمر لتقسيم الأراضي بين الغزاة؛ أو بقائها تحت يد ولي الأمر العادل؛ وكما جمعهم لاستشارتهم في خروجه بشخصه إلى الحرب؛ إذ تكاثر الفرس على المؤمنين؛ فأرادوا أن يخرج إليهم؛ فجمعهم؛ ونهاه علي؛ وبرأيه أخذ المجتمعون - رضي الله عنهم أجمعين -؛ وإن الاستئذان لا ينقص الإيمان؛ ولذا قال: فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم ؛ الفاء للإفصاح؛ لبعض شأنهم ؛ بعض أحوالهم الخاصة بهم التي يجدون حرجا عليهم في أن يذهبوا مع الغزاة؛ أو يستمروا مع المجتمعين لأمر ما؛ " فأذن لمن شئت منهم " ؛ الفاء واقعة في جواب لمن شئت منهم ؛ ولا يشاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ والإمام العادل من بعده؛ إلا ما هو خير ومصلحة؛ فيكون الإذن لمن لا يضر الإذن له؛ ولمن يعلم حاجته إلى التخلف؛ ولمن يعلم صدقه؛ ومن يأذن له يطلب الغفران له؛ ولذا قال (تعالى): واستغفر لهم ؛ السين والتاء للطلب؛ أي: اطلب [ ص: 5236 ] المغفرة لهم؛ وظاهر النص أن طلب الغفران لمن أذن لهم؛ وذلك يومئ إلى أنه كان الأولى بقاؤهم مع المجتمعين على أمر؛ يصح أن نقول: إن طلب الغفران لهم جميعا؛ ليكونوا جميعا في رحمة الله (تعالى)؛ وقد ختم الله (تعالى) الآية الكريمة بقوله (تعالى); إن الله غفور رحيم ؛ غفور يغفر الذنوب جميعا؛ مع التوبة النصوح؛ فهو التواب الذي يقبل من عباده التوبة؛ وهو رحيم؛ والرحمة صفة من صفاته - جل وعز -؛ رحمهم بما بين لهم من شرائع منظمة لجموعهم؛ وحاكمة بينهم؛ ورحيم بغفرانه لما يجترحون من سيئات؛ ويتوبون بعد من قريب.

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية