الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : ومن يتق الله الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      أخرج ابن مردويه ، عن ابن مسعود في قوله : ومن يتق الله يجعل له مخرجا قال : مخرجه أن يعلم أنه من قبل الله، وأن الله هو الذي يعطيه، وهو يمنعه، وهو يبتليه، وهو يعافيه، وهو يدفع عنه .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي قوله : ويرزقه من حيث لا يحتسب قال : يقول : من حيث لا يدري .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج سعيد بن منصور ، والبيهقي في «شعب الإيمان» عن مسروق ، مثله .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد ، وأبو نعيم في «الحلية»، عن قتادة : ومن يتق الله يجعل له مخرجا قال : من شبهات الدنيا، ومن الكرب عند [ ص: 538 ] الموت، وأفزاع يوم القيامة، فالزموا تقوى الله؛ فإن منها الرزق من الله في الدنيا، والثواب في الآخرة، قال الله : وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم [إبراهيم : 7] وقال ها هنا : ويرزقه من حيث لا يحتسب قال : من حيث لا يؤمل ولا يرجو .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب قال : ينجيه من كل كرب في الدنيا والآخرة .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أبو يعلى، وأبو نعيم ، والديلمي، من طريق عطاء بن يسار، عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله : ومن يتق الله يجعل له مخرجا قال : «من شبهات الدنيا، ومن غمرات الموت، ومن شدائد يوم القيامة» .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن مردويه ، وابن عساكر ، عن عبادة بن الصامت قال : طلق بعض آبائي امرأته ألفا، فانطلق بنوه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم – فقالوا : يا رسول الله : إن أبانا طلق أمنا ألفا، فهل له من مخرج؟ فقال : «إن أباكم لم يتق الله فيجعل له من أمره مخرجا، بانت منه بثلاث على غير السنة، والباقي إثم في عنقه» .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج الحاكم وصححه، وضعفه الذهبي من طريق سالم بن أبي الجعد، عن جابر قال : نزلت هذه الآية : ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب في رجل من أشجع، كان فقيرا، خفيف ذات اليد، كثير العيال، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأله فقال : «اتق الله واصبر» فلم يلبث إلا يسيرا حتى جاء ابن له بغنم، كان العدو أصابوه، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأله عنها، وأخبره خبرها فنزلت : ومن يتق الله الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن سالم بن أبي الجعد قال : نزلت هذه الآية : ومن يتق الله يجعل له مخرجا في رجل من أشجع أصابه جهد وبلاء، وكان العدو أسروا ابنه، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : «اتق الله واصبر» فرجع ابن له كان أسيرا قد فكه الله، فأتاهم وقد أصاب أعنزا، فجاء فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فنزلت، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «هي لك» .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج الخطيب في تاريخه من طريق جويبر، عن الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : ومن يتق الله يجعل له الآية، قال : نزلت هذه الآية في ابن لعوف بن مالك الأشجعي، وكان المشركون أسروه، وأوثقوه وأجاعوه، فكتب إلى أبيه، أن ائت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعلمه ما أنا فيه من الضيق والشدة، فلما أخبر رسول - صلى الله عليه وسلم - قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «اكتب إليه، ومره بالتقوى، والتوكل على الله، وأن يقول عند صباحه ومسائه : لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم [التوبة : 128، 129] فلما ورد عليه الكتاب قرأه، فأطلق الله وثاقه، فمر بواديهم التي ترعى فيه إبلهم وغنمهم فاستاقها، فجاء بها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله : إني اغتلتهم بعدما أطلق الله وثاقي فحلال هي أم حرام؟ قال : «بل هي حلال إذا نحن خمسنا» فأنزل الله : ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء من الشدة والرخاء قدرا يعني أجلا، وقال ابن عباس : من قرأ هذه الآية عند سلطان يخاف غشمه، أو عند موج يخاف الغرق، أوعند سبع، لم يضره شيء من ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن مردويه ، من طريق الكلبي ، عن أبي صالح، عن ابن عباس قال : جاء عوف بن مالك الأشجعي فقال يا رسول الله : إن ابني أسره العدو، وجزعت أمه، فما تأمرني؟ قال : «آمرك وإياها أن تستكثروا من قول : لا حول ولا قوة إلا بالله» فقالت المرأة : نعم ما أمرك، فجعلا يكثران منها، فتغفل عنه العدو، فاستاق غنمهم، فجاء بها إلى أبيه، فنزلت : ومن يتق الله يجعل له مخرجا الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم ، عن محمد بن إسحاق، مولى آل قيس بن مخرمة [ ص: 541 ] قال : جاء مالك الأشجعي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له : أسر ابني عوف، فقال له : «أرسل إليه : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرك أن تكثر من : لا حول ولا قوة إلا بالله» وكانوا قد شدوه بالقد، فسقط القد عنه، فخرج، فإذا هو بناقة لهم فركبها، فأقبل، فإذا بسرح للقوم الذين كانوا شدوه، فصاح بها، فأتبع آخرها أولها، فلم يفجأ أبويه إلا وهو ينادي بالباب، فأتى أبوه رسول الله - صلى الله عليه وسلم – فأخبره، فنزلت : ومن يتق الله يجعل له مخرجا الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد ، والحاكم ، وابن مردويه ، والبيهقي في «الدلائل»، عن ابن مسعود قال : أتى رجل رسول الله، صلى الله عليه وسلم - أراه عوف بن مالك - فقال : يا رسول الله، إن بني فلان أغاروا علي فذهبوا بابني وإبلي، فقال : «اسأل الله» فرجع إلى امرأته، فقالت له : ما رد عليك رسول الله، صلى الله عليه وسلم؟ فأخبرها، فلم يلبث الرجل أن رد الله إبله وابنه أوفر ما كان، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم – فأخبره، فقام على المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، وأمرهم بمسألة الله والرغبة له، وقرأ عليهم : ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 542 ] وأخرج ابن أبي حاتم ، عن عائشة في قوله : ومن يتق الله يجعل له مخرجا قال : يكفيه غم الدنيا وهمها .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أحمد ، والحاكم وصححه، وابن مردويه ، وأبو نعيم في «المعرفة»، والبيهقي عن أبي ذر قال : جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتلو هذه الآية : ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب فجعل يرددها حتى نعست، ثم قال : «يا أبا ذر لو أن الناس كلهم أخذوا بها لكفتهم» .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج الطبراني ، وابن مردويه ، وأبو نعيم في «الحلية»، عن معاذ بن جبل : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : «يا أيها الناس اتخذوا تقوى الله تجارة يأتكم الرزق بلا بضاعة ولا تجارة» ثم قرأ : ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أحمد والنسائي ، وابن ماجه، عن ثوبان قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه، ولا يرد القدر إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر» .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 543 ] وأخرج أحمد ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه، والحكيم الترمذي ، وابن مردويه ، والحاكم ، والبيهقي في «شعب الإيمان»، عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «من أكثر من الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب» .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم ، والطبراني ، والبيهقي في «شعب الإيمان»، والخطيب، عن عمران بن حصين قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «من انقطع إلى الله كفاه الله كل مؤنة، ورزقه من حيث لا يحتسب، ومن انقطع إلى الدنيا وكله الله إليها» .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج البخاري في «تاريخه» عن إسماعيل البجلي قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «لئن انتهيتم عند ما تؤمرون لتأكلن غير زارعين» .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، عن الربيع بن خثيم : ومن يتق الله يجعل له مخرجا قال : من كل شيء ضاق على الناس .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 544 ] وأخرج عبد الرزاق ، وابن المنذر ، عن ابن مسعود : ومن يتق الله يجعل له مخرجا قال : نجاة .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أحمد ، والضياء في «الأحاديث المختارة على الصحيحين» عن أبي ذر،، أن رسول الله قال له : «أوصيك بتقوى الله في سر أمرك وعلانيته، وإذا أسأت فأحسن، ولا تسألن أحدا شيئا، ولا تقبض أمانة، ولا تقض بين اثنين» .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أحمد ، عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : «أوصيك بتقوى الله؛ فإنه رأس كل شيء، وعليك بالجهاد؛ فإنه رهبانية الإسلام، وعليك بذكر الله وتلاوة القرآن؛ فإنه روحك في السماء وذكرك في الأرض» .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن سعد، وأحمد ، عن ضرغامة بن عليبة بن حرملة العنبري، قال : حدثني أبي، عن أبيه قال : أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم – فقلت : يا رسول الله، أوصني، قال : «اتق الله، وإذا كنت في مجلس فقمت منه فسمعتهم يقولون ما يعجبك فائته، فإذا سمعتهم يقولون ما تكره فاتركه» .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أحمد في «الزهد» عن وهب بن منبه قال : وجدت في كتاب من كتب الله المنزلة : إن الله عز وجل يقول : إني مع عبدي المؤمن حين يطيعني، أعطيه قبل أن يسألني، وأستجيب له قبل أن يدعوني، وما ترددت عن شيء [ ص: 545 ] ترددي عن قبض عبدي المؤمن؛ إنه يكره ذلك ويسوءه، وأنا أكره أن أسوءه، وليس له منه بد، وما عندي خير له، إن عبدي إذا أطاعني واتبع أمري، فلو أجلبت عليه السماوات السبع بمن فيهن والأرضون السبع بمن فيهن، جعلت له من بين ذلك المخرج، وإنه إذا عصاني ولم يتبع أمري قطعت يديه من أسباب السماء، وخسفت به الأرض من تحت قدميه، وتركته في الأهواء، لا ينتصر من شيء، إن سلطان الأرض موضوع خامد عندي كما يضع أحدكم سلاحه عنه، لا يقطع سيف إلا بيد، ولا يضرب سوط إلا بيد، لا يصل من ذلك إلى شيء إلا بإذني .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي شيبة ، عن الحسن قال : كتب زياد إلى الحكم بن عمرو الغفاري - وهو على خراسان - : إن أمير المؤمنين كتب أن يصطفى له الصفراء والبيضاء، فلا يقسم بين الناس ذهب ولا فضة، فكتب إليه : بلغني كتابك، وإني وجدت كتاب الله قبل كتاب أمير المؤمنين، وإنه والله لو أن السماوات والأرض كانتا رتقا على عبده ثم اتقى الله جعل الله له مخرجا، والسلام عليك، ثم قال : أيها الناس اغدوا على مالكم، فغدوا، فقسمه بينهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي شيبة ، عن عروة، أن عائشة كتبت إلى معاوية : أوصيك بتقوى الله؛ فإنك إن اتقيت الله كفاك الناس، وإن اتقيت الناس لم يغنوا عنك من الله شيئا .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 546 ] وأخرج ابن حبان في «الضعفاء» والبيهقي في «شعب الإيمان» وضعفه، والعسكري في «الأمثال»، عن علي، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إنما تكون الصنيعة إلى ذي دين أو حسب، وجهاد الضعفاء الحج، وجهاد المرأة حسن التبعل لزوجها، والتودد نصف الإيمان، وما عال امرؤ على اقتصاد، واستنزلوا الرزق بالصدقة، وأبى الله أن يجعل أرزاق عباده المؤمنين إلا من حيث لا يحتسبون» .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج القضاعي في «مسنده» من طريق جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده قال : اجتمع أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح، فتماروا في شيء، فقال لهم علي : انطلقوا بنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما وقفوا عليه قالوا : يا رسول الله، جئنا نسألك عن شيء، فقال : «إن شئتم فاسألوا، وإن شئتم خبرتكم بما جئتم له» فقال لهم : «جئتم تسألوني عن الرزق، ومن أين يأتي، وكيف يأتي؟ أبى الله أن يرزق عبده المؤمن إلا من حيث لا يعلم» .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية