الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          باب ما جاء في الصرف

                                                                                                          حدثني يحيى عن مالك عن ابن شهاب عن مالك بن أوس بن الحدثان النصري أنه التمس صرفا بمائة دينار قال فدعاني طلحة بن عبيد الله فتراوضنا حتى اصطرف مني وأخذ الذهب يقلبها في يده ثم قال حتى يأتيني خازني من الغابة وعمر بن الخطاب يسمع فقال عمر والله لا تفارقه حتى تأخذ منه ثم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء قال مالك إذا اصطرف الرجل دراهم بدنانير ثم وجد فيها درهما زائفا فأراد رده انتقض صرف الدينار ورد إليه ورقه وأخذ إليه ديناره وتفسير ما كره من ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء وقال عمر بن الخطاب وإن استنظرك إلى أن يلج بيته فلا تنظره وهو إذا رد عليه درهما من صرف بعد أن يفارقه كان بمنزلة الدين أو الشيء المتأخر فلذلك كره ذلك وانتقض الصرف وإنما أراد عمر بن الخطاب أن لا يباع الذهب والورق والطعام كله عاجلا بآجل فإنه لا ينبغي أن يكون في شيء من ذلك تأخير ولا نظرة وإن كان من صنف واحد أو كان مختلفة أصنافه

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          17 - باب ما جاء في الصرف

                                                                                                          1333 1319 - ( مالك عن ابن شهاب عن مالك بن أوس بن الحدثان ) بفتح المهملتين والمثلثة ابن عوف ( النصري ) بفتح النون وإسكان المهملة من بني نصر بن معاوية أبي سعيد المدني له رؤية وأبوه صحابي ، وقال أحمد بن صالح : إن لمالك صحبة ، وقال سلمة بن وردان : رأيت جماعة من الصحابة فعده فيهم ، وذكر الواقدي أنه ركب الخيل في الجاهلية .

                                                                                                          وروى أنس بن عياض عن سلمة بن وردان عن مالك بن أوس قال : " كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال : وجبت وجبت " صححه أحمد بن صالح قال في الاستيعاب : لا أحفظ له خيرا في صحبته أكثر من هذا .

                                                                                                          وأما روايته عن عمر فأشهر من أن تذكر ، وروى عن العشرة والعباس اهـ .

                                                                                                          [ ص: 424 ] وقال البخاري وابن معين وأبو حاتم الرازي وابن حبان : لا يصح له صحبة ، قال ابن حبان : من زعم أن له صحبة فقد وهم ، قال ابن منده : وحديث سلمة عنه كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم وهم ، صوابه عن أنس بن مالك أي كما رواه أبو يعلى من طريق ابن أبي فديك عن سلمة عن أنس ، وذكره ابن البرقي فيمن رأى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يثبت له عنه رواية ، وابن سعد فيمن أدركه ورآه ولم يحفظ عنه شيئا ، وذكره أيضا في الطبقة الأولى من التابعين وقال : كان قديما ولكنه تأخر إسلامه ولم يبلغنا أن له رؤية ولا رواية مات سنة اثنتين وتسعين في قول الجمهور قيل سنة إحدى وهو ابن أربع وتسعين ( أنه التمس صرفا ) بفتح الصاد وإسكان الراء من الدراهم ، وفي رواية للبخاري أنه قال : من عنده صرف ؟ فقال طلحة : أنا .

                                                                                                          ولمسلم : من يصطرف الدراهم ( بمائة دينار ) ذهبا كانت معه ( قال ) مالك : ( فدعاني طلحة بن عبيد الله ) بضم العين أحد العشرة ( فتراوضنا ) بإسكان الضاد المعجمة أي تجارينا حديث البيع والشراء وسوما بين المتبايعين من الزيادة والنقصان لأن كل واحد يروض صاحبه ، وقيل : هي المواضعة بالسلعة بأن يصف كل منهما سلعته للآخر ( حتى اصطرف مني ) ما كان معي ( فأخذ الذهب يقلبها في يده ) والذهب يذكر ويؤنث فلا حاجة إلى أنه ضمن الذهب معنى العدد وهو المائة فأنثه لذلك ( ثم قال حتى ) أي اصبر إلى أن ( يأتيني خازني ) لم يسم ( من الغابة ) بغين معجمة فألف فموحدة موضع قرب المدينة به أموال لأهلها وكان لطلحة بها مال ونخل وغيره ، وإنما قال ذلك طلحة لظنه جوازه كسائر البيوع وما كان بلغه حكم المسألة ، قال المازري : وأنه كان يرى جواز المواعدة في الصرف كما هو قول عندنا أو أنه لم يقبضها وإنما أخذها يقلبها ( وعمر بن الخطاب يسمع ) ذلك ( فقال عمر ) لمالك بن أوس : ( والله لا تفارقه حتى تأخذ منه ) عوض الذهب .

                                                                                                          وفي رواية : والله لتعطينه ورقه ، وهذا خطاب لطلحة ، وفيه تفقد عمر أحوال رعيته في دينهم والاهتمام بهم وتأكيد الأمر باليمين وأن الخليفة أو السلطان إذا سمع أو رأى ما لا يجوز وجب عليه النهي عنه والإرشاد إلى الحق .

                                                                                                          ( ثم قال ) مستدلا على المنع بالسنة لأنها الحجة عن التنازع ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الذهب بالورق ) بفتح الواو وكسر الراء أي الفضة هكذا رواه أكثر أصحاب الزهري كمالك ومعمر وابن عيينة لم يقولوا الذهب بالذهب في كل حديث عمر وهم الحجة على ما خالفهم وهو المناسب لسياق القصة ( ربا ) في جميع الأحوال ( إلا هاء وهاء ) [ ص: 425 ] بالمد وفتح الهمزة فيهما على الأصح الأشهر اسم فعل بمعنى خذ ، يقال هاء درهما أي خذ درهما فنصب درهما باسم الفعل كما ينصب بالفعل ، وبالقصر يقوله المحدثون وأنكره الخطابي وقال : الصواب المد ويجوز كسر الهمزة نحو هات وسكونها نحو خف وأصلها هاك بالكاف فقلبت همزة ، وليس المراد أنها من نفس الكلمة وإنما المراد أصلها في الاستعمال وهي حرف خطاب ، وقال ابن مالك : وحقها أن لا تقع بعد إلا كما لا يقع بعدها خذ ، فإذا وقع قدر قول قبله يكون به محكيا أي إلا مقولا عنده من المتعاقدين هاء وهاء ، قال الطيبي : فإذا محله النصب على الحال والمستثنى منه مقدر يعني بيع الذهب بالورق ربا في جميع الحالات إلا حال الحضور والتقابض فكنى عنه بقوله هاء وهاء لأنه لازمه وقال الأبي : محله النصب على الظرفية ( والبر بالبر ) بضم الموحدة القمح وهي الحنطة أي بيع أحدهما بالآخر ( ربا إلا ) مقولا عنده من المتعاقدين ( هاء ) من أحدهما ( وهاء ) من الآخر أي خذ .

                                                                                                          ( والتمر بالتمر ) أي بيع أحدهما بالآخر ( ربا ) بالتنوين من غير همز ( إلا هاء وهاء ) من المتعاقدين .

                                                                                                          ( والشعير بالشعير ) بفتح الشين على المشهور وقد تكسر ، قال ابن مكي : كل فعيل وسطه حرف حلق مكسور يجوز كسر ما قبله في لغة تميم ، قال : وزعم الليث أن قوما من العرب يقولون ذلك وإن لم تكن عينه حرف حلق نحو كبير وجليل وكريم أي بيع الشعير بالشعير ( ربا إلا ) مقولا عنده من المتعاقدين ( هاء وهاء ) أي يقول كل واحد منهما للآخر خذ ، وظاهره أن البر والشعير صنفان ، وبه قال أبو حنيفة والشافعي وفقهاء المحدثين وغيرهم ، وقال مالك والليث ومعظم علماء المدينة والشام من المتقدمين إنهما صنف واحد ، زاد مسلم من حديث أبي سعيد : والملح بالملح والذهب بالذهب والفضة بالفضة ، ومثله عنده من حديث عبادة ففي حديث الباب أن النساء يمتنع في ذهب بورق وهما جنسان مختلفان يجوز التفاضل بينهما إجماعا ونصا ، فأحرى أن لا يجوز في ذهب بذهب ولا ورق بورق لحرمة التفاضل فيهما إجماعا ونصا ، أي فليس حديث عمر بقاصر عن حديث غيره فتجب المناجزة في الصرف ، ولا يجوز التأخير ولو كانا بالمجلس لم يتفرقا عند مالك ، ومحمل قول عمر عنده لا تفارقه حتى تأخذ منه أن ذلك على الفور لا على التراخي وهو المعقول من لفظه صلى الله عليه وسلم " هاء وهاء " .

                                                                                                          وقال أبو حنيفة والشافعي : يجوز التقابض في الصرف ما لم يفترقا وإن طالت المدة وانتقلا إلى مكان آخر ، واحتجوا بقول عمر وجعلوه تفسيرا لما رواه وبقوله : وإن استنظرك إلى أن يلج بيته فلا تنظره ، قالوا : منه أن المراعى الافتراق قاله أبو عمر .

                                                                                                          قال الأبي : المناجزة قبض العوضين عقب العقد وهي شرط في تمام الصرف لا في عقده فليس أحدهما أن يرجع [ ص: 426 ] وصرح بأنها : " شرط المازري وابن محرز واختار شيخنا - يعني ابن عرفة - أنها ركن لتوقف حقيقته عليها وليست بخارجة ، وظاهر كلام ابن القصار أنها ليست بركن ولا شرط وإنما التأخير مانع من تمام العقد ، فإن قيل لا يصح أنها شرط لأن الشرط عقليا كالحياة للعلم أو شرعيا كالوضوء للصلاة شرطه أن يوجد دون المشروط ، والمناجزة لا توجد دون عقد الصرف فما صورة تأخيرها ؟ أجيب بأنها إنما هي شرط في الصرف الصحيح وهو متأخر عنها ، هذا وذهب الجمهور إلى أن التحريم إنما اختص بالستة المذكورة : الذهب والفضة والبر والشعير والتمر والملح المعنى فيها فيقاس عليها ما وجد فيه ذلك المعنى ، ثم اختلف في تعيينه فقال مالك والشافعي : العلة في النقدين الثمنية لأنهما أثمان المبيعات وقيم المتلفات فلا يقاس عليهما شيء من الموزون لعدم العلة في شيء منها ، والقياس إنما هو على العلة لا على الأسماء ، والعلة في الأربع عند مالك الاقتيات والادخار والإصلاح ، وعند الشافعي الطعمية ، فنص صلى الله عليه وسلم على أعلى القوت وهو البر وعلى أدناه وهو الشعير تنبيها بالطرفين على الوسط الذي بينهما كسلت وأرز ودخن وذرة ، وإذا أريد ذكر شيء جملة فربما كان ذكر طرفيه أدل على استيعابه من اللفظ الشامل لجميعه كقولهم : مطرنا السهل والجبل ، وضربته الظهر والبطن ، وذكر التمر وإن كان مقتاتا لأن فيه ضربا من التفكه حتى أنه يؤكل لا على جهة الاقتيات تنبيها على أن ذلك المعنى لا يخرجه عن بابه ولإدخال ما شابهه وهو الزبيب ، ولما علم أن هذه الأقوات لا يصلح اقتياتها بلا مصلح حتى أنها دونه تكاد أن تلحق بالعدم ذكر الملح ونبه به على ما هو مثله في الإصلاح ولا يقتات منفردا ، وفي الحديث فوائد كثيرة وأخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك به ، وتابعه الليث وابن عيينة عند مسلم وغيره ، ورواه الأربعة من طريق مالك وتبعه جماعة عندهم .

                                                                                                          ( قال مالك : إذا اصطرف الرجل دراهم بدينار ) وفي نسخة بدنانير ( ثم وجد فيها درهما زائفا ) أي رديئا ( فأراد رده انتقض صرف الدينار ورد إليه ورقه ) فضته ( وأخذ إليه ديناره وتفسير ما كره من ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء ) أي خذ ( وقال عمر بن الخطاب ) راوي الحديث ( وإن استنظرك إلى أن يلج بيته فلا تنظره وهو إذا رد عليه درهما من صرف بعد أن يفارقه كان بمنزلة الدين أو الشيء المتأخر فلذلك كره ) أي [ ص: 427 ] منع ( ذلك وانتقض الصرف ، وإنما أراد عمر بن الخطاب أن لا يباع الذهب والورق والطعام كله عاجلا بآجل ) أي مؤخر ( فإنه لا ينبغي أن يكون في شيء من ذلك تأخير ولا نظرة ) أي تأخير فحسن العطف اختلاف العبارة ، والعرب تفعل ذلك للتأكيد ( وإن كان صنف واحد أو كان مختلفة أصنافه ) لحرمة ربا النساء إجماعا ونصا .




                                                                                                          الخدمات العلمية