الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                بسم الله الرحمن الرحيم كتاب الزكاة

                                                                                                                979 وحدثني عمرو بن محمد بن بكير الناقد حدثنا سفيان بن عيينة قال سألت عمرو بن يحيى بن عمارة فأخبرني عن أبيه عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ولا فيما دون خمس ذود صدقة ولا فيما دون خمس أواق صدقة وحدثنا محمد بن رمح بن المهاجر أخبرنا الليث ح وحدثني عمرو الناقد حدثنا عبد الله بن إدريس كلاهما عن يحيى بن سعيد عن عمرو بن يحيى بهذا الإسناد مثله وحدثنا محمد بن رافع حدثنا عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج أخبرني عمرو بن يحيى بن عمارة عن أبيه يحيى بن عمارة قال سمعت أبا سعيد الخدري يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وأشار النبي صلى الله عليه وسلم بكفه بخمس أصابعه ثم ذكر بمثل حديث ابن عيينة [ ص: 42 ]

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                [ ص: 42 ] كتاب الزكاة .

                                                                                                                هي في اللغة : النماء والتطهير ، فالمال ينمى بها من حيث لا يرى ، وهي مطهرة لمؤديها من الذنوب ، وقيل : ينمى أجرها عند الله تعالى . وسميت في الشرع زكاة لوجود المعنى اللغوي فيها ، وقيل : لأنها تزكي صاحبها وتشهد بصحة إيمانه ، كما سبق في قوله صلى الله عليه وسلم : " والصدقة برهان " . قالوا : وسميت صدقة ؛ لأنها دليل لتصديق صاحبها وصحة إيمانه بظاهره وباطنه ، قال القاضي عياض : قال المازري - رحمه الله - : قد أفهم الشرع أن الزكاة وجبت للمواساة ، وأن المواساة لا تكون إلا في مال له بال وهو النصاب ، ثم جعلها في الأموال الثابتة ؛ وهي العين والزرع والماشية ، وأجمعوا على وجوب الزكاة في هذه الأنواع ، واختلفوا فيما سواها كالعروض ، فالجمهور يوجبون زكاة العروض ، وداود يمنعها تعلقا بقوله صلى الله عليه وسلم : " ليس على الرجل في عبده ولا فرسه صدقة " وحمله الجمهور على ما كان للقنية ، وحدد الشرع نصاب كل جنس بما يحتمل المواساة ؛ فنصاب الفضة : خمس أواق ، وهي مائتا درهم ، بنص الحديث والإجماع . وأما الذهب : فعشرون مثقالا . والمعول فيه على الإجماع قال : وقد حكي فيه خلاف شاذ ، وورد فيه أيضا حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                وأما الزروع والثمار والماشية فنصبها معلومة ، ورتب الشرع مقدار الواجب بحسب المؤنة والتعب في المال ، فأعلاها وأقلها تعبا الركاز وفيه الخمس لعدم التعب فيه ، ويليه الزرع والثمر ، فإن سقي بماء السماء ونحوه ففيه العشر ، وإلا فنصفه ، ويليه الذهب والفضة والتجارة وفيها ربع العشر ، لأنه يحتاج إلى العمل فيه جميع السنة ، ويليه الماشية فإنه يدخلها الأوقاص بخلاف الأنواع السابقة . والله أعلم .

                                                                                                                قوله صلى الله عليه وسلم : ( ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ) الأوسق جمع وسق ، فيه لغتان : فتح الواو وهو [ ص: 43 ] المشهور ، وكسرها . وأصله في اللغة الحمل ، والمراد بالوسق ستون صاعا كل صاع خمسة أرطال وثلث بالبغدادي . وفي رطل بغداد أقوال أظهرها : أنه مائة درهم وثمانية وعشرون درهما وأربعة أسباع درهم ، وقيل : مائة وثمانية وعشرون بلا أسباع ، وقيل : مائة وثلاثون ، فالأوسق الخمسة ألف وستمائة رطل بالبغدادي .

                                                                                                                وهل هذا التقدير بالأرطال تقريب أم تحديد ؟ فيه وجهان لأصحابنا : أصحهما : تقريب ، فإذا نقص عن ذلك يسير أوجبت الزكاة ، والثاني : تحديد ، فمتى نقص شيئا وإن قل لم تجب الزكاة .

                                                                                                                وفي هذا الحديث فائدتان : إحداهما : وجوب الزكاة في هذه المحدودات ، الثانية : أنه لا زكاة فيما دون ذلك ، ولا خلاف بين المسلمين في هاتين إلا ما قال أبو حنيفة وبعض السلف : إنه تجب الزكاة في قليل الحب وكثيره ، وهذا مذهب باطل منابذ لصريح الأحاديث الصحيحة ، وكذلك أجمعوا على أن في عشرين مثقالا من الذهب زكاة إلا ما روي عن الحسن البصري والزهري أنهما قالا : لا تجب في أقل من أربعين مثقالا ، والأشهر عنهما الوجوب في عشرين كما قاله الجمهور . قال القاضي عياض : وعن بعض السلف وجوب الزكاة في الذهب إذا بلغت قيمته مائتي درهم وإن كان دون عشرين مثقالا ، قال هذا القائل : ولا زكاة في العشرين حتى تكون قيمتها مائتي درهم .

                                                                                                                وكذلك أجمعوا فيما زاد في الحب والتمر أنه يجب فيما زاد على خمسة أوسق بحسابه ، وأنه لا أوقاص فيها ، واختلفوا في الذهب والفضة فقال مالك والليث والثوري والشافعي وابن أبي ليلى وأبو يوسف ومحمد وأكثر أصحاب أبي حنيفة وجماعة أهل الحديث : إن فيما زاد من الذهب والفضة ربع العشر في قليله وكثيره ولا وقص ، وروي ذلك عن علي وابن عمر ، وقال أبو حنيفة وبعض السلف : لا شيء فيما زاد على مائتي درهم حتى يبلغ أربعين درهما ولا فيما زاد على عشرين دينارا حتى يبلغ أربعة دنانير ، فإذا زادت ففي كل أربعين درهما درهم ؛ وفي كل أربعة دنانير درهم فجعل لها وقصا كالماشية ، واحتج الجمهور بقوله صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري : في الرقة ربع العشر ، والرقة الفضة ، وهذا عام في النصاب وما فوقه بالقياس على الحبوب . ولأبي حنيفة في المسألة حديث ضعيف لا يصح الاحتجاج به ، قال القاضي : ثم إن مالكا والجمهور يقولون بضم الذهب والفضة بعضهما إلى بعض في إكمال النصاب ، ثم إن مالكا يراعي الوزن ويضم على الأجزاء لا على القيم ، ويجعل كل دينار كعشرة دراهم على الصرف الأول ، وقال الأوزاعي والثوري وأبو حنيفة : يضم على القيم في وقت الزكاة ، وقال الشافعي وأحمد وأبو ثور وداود : لا يضم مطلقا .

                                                                                                                قوله صلى الله عليه وسلم : ( ولا فيما دون خمس ذود صدقة ) . الرواية المشهورة : ( خمس ذود ) بإضافة ذود إلى خمس ، وروي بتنوين خمس ويكون ذود بدلا منه ، حكاه ابن عبد البر والقاضي وغيرهما ، والمعروف الأول ، ونقله ابن عبد البر والقاضي عن الجمهور ، قال أهل اللغة : الذود من الثلاثة إلى العشرة لا واحد له من لفظه ، وإنما يقال في الواحد بعير ، وكذلك النفر والرهط والقوم والنساء وأشباه هذه الألفاظ لا واحد لها من لفظها ، قالوا : وقوله : ( خمس ذود ) كقوله : خمسة أبعرة ، وخمسة جمال ، وخمس نوق ، وخمس نسوة .

                                                                                                                [ ص: 44 ] قال سيبويه : تقول ثلاث ذود ؛ لأن الذود مؤنث وليس باسم كسر عليه مذكره ، ثم الجمهور على أن الذود من ثلاثة إلى العشرة ، وقال أبو عبيد : ما بين ثلاث إلى تسع ، وهو مختص بالإناث ، وقال الحربي : قال الأصمعي : الذود : ما بين الثلاث إلى العشرة ، والصبة : خمس أو ست ، والصرمة : ما بين العشرة إلى العشرين ، والعكرة : ما بين العشرين إلى الثلاثين ، والهجمة : ما بين الستين إلى السبعين ، والهنية : مائة ، والحظر نحو مائتين ، والعرج : من خمسمائة إلى ألف .

                                                                                                                وقال أبو عبيدة وغيره : الصرمة : ما بين العشر إلى الأربعين . وأنكر ابن قتيبة أن يقال : خمس ذود ، كما لا يقال : خمس ثوب ، وغلطه العلماء ، بل هذا اللفظ شائع في الحديث الصحيح ، ومسموع من العرب معروف في كتب اللغة ، وليس هو جمعا للفرد بخلاف الأثواب ، قال أبو حاتم السجستاني : تركوا القياس في الجمع ؛ فقالوا : خمس ذود لخمس من الإبل ، وثلاث ذود لثلاث من الإبل ، وأربع ذود وعشر ذود على غير قياس كما قالوا : ثلاثمائة وأربعمائة ، والقياس مئين ومئات ، ولا يكادون يقولونه ، وقد ضبطه الجمهور خمس ذود ، ورواه بعضهم خمسة ذود ، وكلاهما لرواة كتاب مسلم ، والأول أشهر ، وكلاهما صحيح في اللغة ، فإثبات الهاء لانطلاقه على المذكر والمؤنث ، ومن حذفها قال الداودي : أراد أن الواحدة منه فريضة .

                                                                                                                قوله صلى الله عليه وسلم : ( وليس فيما دون خمس أواقي صدقة ) هكذا وقع في الرواية الأولى : ( أواقي ) بالياء ، وفي باقي الروايات بعدها ( أواق ) بحذف الياء ، وكلاهما صحيح . قال أهل اللغة : الأوقية بضم الهمزة وتشديد الياء وجمعها أواقي بتشديد الياء وتخفيفها ، وأواق بحذفها ، قالابن السكيت في الإصلاح : كل ما كان من هذا النوع واحده مشددا جاز في جمعه التشديد والتخفيف ، فالأوقية والأواقي والسرية والسراري والختية والعلية والأثفية ونظائرها ، وأنكر جمهورهم أن يقال في الواحدة : ( وقية ) بحذف الهمزة ، وحكى [ ص: 45 ] اللحياني جوازها بحذف الواو وتشديد الياء وجمعها ( وقايا ) ، وأجمع أهل الحديث والفقه وأئمة أهل اللغة على أن الأوقية الشرعية أربعون درهما ، وهي أوقية الحجاز : قال القاضي عياض : ولا يصح أن تكون الأوقية والدراهم مجهولة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو يوجب الزكاة في أعداد منها ، ويقع بها البياعات والأنكحة كما ثبت في الأحاديث الصحيحة ، قال : وهذا يبين أن قول من زعم أن الدراهم لم تكن معلومة إلى زمان عبد الملك بن مروان ، وأنه جمعها برأي العلماء وجعل كل عشرة وزن سبعة مثاقيل ، ووزن الدرهم ستة دوانيق قول باطل ، وإنما معنى ما نقل من ذلك أنه لم يكن منها شيء من ضرب الإسلام وعلى صفة لا تختلف ، بل كانت مجموعات من ضرب فارس والروم وصغارا وكبارا ، وقطع فضة غير مضروبة ولا منقوشة ، ويمنية ومغربية ، فرأوا صرفها إلى ضرب الإسلام ونقشه وتصييرها وزنا واحدا لا يختلف ، وأعيانا ليستغنى فيها عن الموازين ، فجمعوا أكبرها وأصغرها وضربوه على وزنهم ، قال القاضي : ولا شك أن الدراهم كانت حينئذ معلومة ، وإلا فكيف كانت تعلق بها حقوق الله تعالى في الزكاة وغيرها وحقوق العباد ؟ ولهذا كانت الأوقية معلومة ، هذا كلام القاضي . وقال أصحابنا : أجمع أهل العصر الأول على التقدير بهذا الوزن المعروف ، وهو أن الدرهم ستة دوانيق وكل عشرة دراهم سبعة مثاقيل ، ولم يتغير المثقال في الجاهلية ولا الإسلام .




                                                                                                                الخدمات العلمية