الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      القول في تأويل قوله تعالى:

                                                                                                                                                                                                                                      [40] ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما .

                                                                                                                                                                                                                                      ما كان محمد أبا أحد من رجالكم هذا دفع لتعيير من جهل، فقال: تزوج محمد زوج ابنه زيد. فدفعه تعالى بأنه إنما يتصور لو كان صلى الله عليه وسلم أبا لزيد على الحقيقة، لكنه ليس أبا لأحد من أصحابه، حتى يثبت بينه وبينه ما يثبت بين الأب وولده من حرمة الصهر والنكاح، وزيد واحد منهم، الذين ليسوا بأولاده حقيقة، فكان حكمه حكمهم، والادعاء والتبني من باب الاختصاص والتقريب غير: ولكن رسول الله أي: ولكن كان رسول الله مبلغا رسالاته: وخاتم النبيين بفتح التاء وكسرها، قراءتان; أي: فهذا نعته وهذه صفته، فليس هو في حكم الأب الحقيقي، وإنما ختمت النبوة به; لأنه شرع له من الشرائع ما ينطبق على مصالح الناس في كل زمان، وكل مكان; لأن القرآن الكريم لم يدع أما من أمهات المصالح إلا جلاها، ولا مكرمة من أصول الفضائل إلا أحياها، فتمت الرسالات برسالته إلى الناس أجمعين، وظهر مصداق ذلك بخيبة كل من ادعى النبوة بعده، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين: وكان الله بكل شيء عليما أي: فلا يقضي إلا بما سبق به علمه، ونفذت فيه مشيئته، واقتضته حكمته.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 4867 ] تنبيهان في لطائف هذه القصة، وفوائدها الباهرات:

                                                                                                                                                                                                                                      الأول- لم تختلف الروايات أنه نزلت في قصة زيد بن حارثة ، وزوجه زينب بنت جحش . ورواه البخاري عن أنس في التفسير. ورواه عنه في التوحيد قال: جاء زيد بن حارثة يشكو، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: « اتق الله وأمسك عليك زوجك » . وأخرجه أحمد بلفظ أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم منزل زيد بن حارثة . فجاءه زيد يشكوها إليه. فقال له: « أمسك زوجك واتق الله » . فنزلت.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أخرج ابن أبي حاتم هذه القصة من طريق السدي . فساقها سياقا حسنا واضحا، ولفظه: بلغنا أن هذه الآية نزلت في زينب بنت جحش ، وكانت أمها أميمة بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يزوجها زيد بن حارثة مولاه فكرهت ذلك، ثم إنها رضيت بما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فزوجها إياه، ثم أعلم الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بعد، أنها من أزواجه، فكان يستحي أن يأمره بطلاقها، وكان لا يزال يكون بين زيد وزينب ما يكون من الناس، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمسك عليه زوجه، وأن يتقي الله، وكان يخشى الناس أن يعيبوا عليه ويقولوا تزوج امرأة ابنه; وكان قد تبنى زيدا.

                                                                                                                                                                                                                                      وعنده، ومن طريق علي بن زيد بن جدعان عن علي بن الحسين بن علي ، قال: أعلم الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن زينب ستكون من أزواجه قبل أن يتزوجها، فلما أتاه زيد يشكوها إليه، وقال له: « اتق الله وأمسك عليك زوجك » . قال الله تعالى: (قد أخبرتك أني مزوجكها)، وتخفي في نفسك ما الله مبديه

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 4868 ] قال الحافظ ابن حجر في (الفتح) بعد نقل ما تقدم: ووردت آثار أخرى أخرجها ابن أبي حاتم والطبري ، ونقلها كثير من المفسرين، لا ينبغي التشاغل بها، والذي أوردته منها هو المعتمد. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الحافظ ابن كثير : ذكر ابن أبي حاتم وابن جرير ههنا آثارا، أحببنا أن نضرب عنها صفحا; لعدم صحتها، فلا نوردها. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني- قال القاضي عياض رحمه الله في (الشفا) في بحث أقواله صلى الله عليه وسلم الدنيوية: ولا يجوز عليه صلى الله عليه وسلم أن يأمر أحدا بشيء أو ينهى أحدا عن شيء، وهو يبطن خلافه، وقد قال عليه السلام: « ما كان لنبي أن تكون له خائنة الأعين، فكيف أن تكون له خائنة قلب؟ » . فإن قلت: فما معنى قوله في قصة زيد: وإذ تقول للذي أنعم الله عليه الآية. فاعلم أكرمك الله ولا تسترب في تنزيه النبي عليه السلام عن هذا الظاهر، وأن يأمر زيدا بإمساكها، وهو يحب تطليقه إياها، ذكر عن جماعة من المفسرين، وأصح ما في هذا ما حكاه أهل التفسير عن علي بن حسين أن الله تعالى كان أعلم نبيه أن زينب ستكون من أزواجه، فلما شكاها إليه زيد، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: « أمسك عليك زوجك واتق الله » وأخفى منه في نفسه ما أعلمه الله به أنه سيتزوجها مما الله مبديه ومظهره بتمام التزويج وطلاق زيد لها.

                                                                                                                                                                                                                                      وروى نحوه عمرو بن فائد عن الزهري قال: نزل جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم يعلمه أن الله يزوجه زينب بنت جحش . فذلك الذي أخفى في نفسه، ويصحح هذا قول المفسرين في قوله بعد هذا: وكان أمر الله مفعولا أي: لا بد لك أن تتزوجها، ويوضح هذا أن الله تعالى لم يبد من أمره معها غير زواجه لها، فدل أنه الذي أخفاه عليه السلام، مما كان [ ص: 4869 ] أعلمه به تعالى، وقوله تعالى في القصة: ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له دل على أنه لم يكن عليه حرج في الأمر، ولو كان على ما قيل من وقوعها في قلبه، ومحبة طلاق زيد لها، لكان فيه أعظم الحرج. وكيف يقال: رآها فأعجبته وهي بنت عمته، ولم يزل يراها منذ ولدت، ولا كان النساء يحتجبن منه عليه السلام، وهو زوجها لزيد ، وإنما جعل الله طلاق زيد لها، وتزويج النبي صلى الله عليه وسلم إياها، لإزالة حرمة التبني وإبطال سببه. كما قال: ما كان محمد أبا أحد من رجالكم وقال: لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم قال ابن فورك: وليس معنى الخشية هنا الخوف، وإنما معناه الاستحياء; أي: يستحي منهم أن يقولوا تزوج زوجة ابنه، وأن خشيته عليه السلام من الناس كانت من إرجاف المنافقين واليهود، وتشغيبهم على المسلمين بقولهم: تزوج زوجة ابنه بعد نهيه عن نكاح حلائل الأبناء، كما كان. فعتبه الله تعالى على هذا، أو نزهه عن الالتفات إليهم فيما أحله له، كما عتبه على مراعاة رضا أزواجه في سورة التحريم بقوله: لم تحرم ما أحل الله لك الآية. كذلك قوله ههنا. انتهى ملخصا.

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث- قال الإمام ابن حزم في (الفصل) يرد على من استدل بمثل هذه الآية على جواز وقوع الصغائر من الأنبياء، ما مثاله: وأما قوله تعالى: وتخفي في نفسك ما الله مبديه الآية. فقد أنفنا من ذلك; إذ لم يكن فيه معصية أصلا ولا خلاف فيما أمره الله تعالى به، وأن ما كان أراده زواج، مباح له فعله، ومباح له تركه، ومباح له طيه، ومباح له إظهاره، وإنما خشي النبي صلى الله عليه وسلم الناس في ذلك خوف أن يقولوا ويظنوا ظنا، فيهلكوا; كما قال عليه السلام للأنصاريين: « إنها صفية » فاستعظما ذلك، فأخبرهما النبي صلى الله عليه وسلم « أنه إنما [ ص: 4870 ] يخشى أن يلقي الشيطان في قلوبهما شيئا » . وهذا الذي خشيه عليه السلام على الناس من هلاك أديانهم، بظن يظنونه به عليه السلام، هو الذي يحققه هؤلاء المخذولون المخالفون لنا في هذا الباب. وكان مراد الله عز وجل أن يبدي ما في نفسه، لما كان سلف في علمه من السعادة لأمنا زينب رضي الله عنها، انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      الرابع - للإمام مفتي مصر رحمه الله مقالة على هذه الآية. رأيت نقلها هنا تعزيزا لما سلف، وإيقافا من أسرار الآية على نخب ما وصف. قال رحمه الله: نزلت هذه الآية في زينب بنت جحش ، وهي بنت عمته -صلى الله عليه وسلم- أميمة بنت عبد المطلب ، وقد خطبها الرسول على مولاه زيد بن حارثة ، فأبت وأبى أخوها عبد الله بن جحش فنزلت آية: وما كان لمؤمن إلخ، فلما نزلت الآية قالا: رضينا يا رسول الله. فأنكحها إياه. وساق عنه إليها مهرها ستين درهما، وخمارا، وملحفة، ودرعا، وإزارا، وخمسين مدا من طعام، وثلاثين صاعا من تمر. كذا يروى.

                                                                                                                                                                                                                                      فنحن من جهة، نرى أن زينب كانت بنت عمة النبي صلى الله عليه وسلم، ربيت تحت نظره وشملها من عنايته ما يشمل البنت مع والدها لأول الأمر، حتى أنه اختارها لمولاه زوجة، مع إبائها وإباء أخيها، وعد إباءها هذا عصيانا، ولا زالت كذلك حتى نزل في شأنها قرآن، فكأنه أرغمها على زواجه، لما ألهمه الله من المصلحة لها وللمسلمين في ذلك، ولو كان للجمال سلطان على قلبه صلى الله عليه وسلم، لكان أقوى سلطانه عليه جمال البكر في روائه، ونضرة جدته، وقد كان يراها ولم يكن بينه وبينها حجاب، ولا يخفى عليه شيء من محاسنها الظاهرة، ولكنه لم يرغبها لنفسه، ورغبها لمولاه، فكيف يمتد نظره إليها، ويصيب قلبه سهم حبها، بعد أن صارت زوجة لعبد من عبيده أنعم عليه بالعتق والحرية؟ لم يعرف فيما يغلب على مألوف البشر، أن تعظم شهوة القريب وولعه بالقريب، إلى أن تبلغ حد العشق، خصوصا إذا كان عشيره منذ صغره. بل [ ص: 4871 ] المألوف زهادة الأقرباء بعضهم في بعض، متى تعود بعضهم النظر إلى بعض، من بداية السن إلى أن يبلغ حدا منه يجول فيه نظر الشهوة. فكيف يظن أو يتوهم أن النبي الذي يقول الله له: ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا يخالف مألوف العادة، ثم يخالف أمر الله في ذلك؟ أم كيف بالبال أن من عصم الله قلبه عن كل دنيئة، يغلب عليه سلطانه شهوة في بنت عمته، بعد أن زوجها بنفسه لعبد من عبيده؟.

                                                                                                                                                                                                                                      ومن جهة أخرى ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الرؤوف الرحيم، لم يبال بإباء زينب ورغبتها عن زيد، وقد كان لا يخفى عليه أن نفور قلب المرأة من زوجها مما تسوء معه العشرة، وتفسد به شؤون المعيشة. فما كان له -وهو سيد المصلحين- أن يرغم امرأة على الاقتران برجل وهي لا ترضاه، مع ما في ذلك من الضرر الظاهر بكل من الزوجين.

                                                                                                                                                                                                                                      لا ريب أننا نجد من ذلك هاديا إلى وجه الحق في فهم الآية التي نحن بصدد تفسيرها. ذلك أن التصاق الأدعياء بالبيوت واتصالهم بأنسابها، كان أمرا تدين به العرب، وتعده أصلا يرجع إليه في الشرف والحسب، وكانوا يعطون الدعي جميع حقوق الابن، ويجرون له وعليه جميع الأحكام التي يعتبرونها للابن، حتى في الميراث وحرمة النسب، وهي عقيدة جاهلية رديئة، أراد الله محوها بالإسلام، حتى لا يعرف من النسب إلا الصريح ولا يجرى من أحكامه إلا ما له أساس صحيح; لهذا أنزل الله: وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل ثم قال: ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله إلخ فهذا العدل الإلهي، أن لا ينال حق الابن إلا من يكون ابنا.

                                                                                                                                                                                                                                      أما المتبنى واللصيق فلا يكون له حق إلا حق المولى والأخ في الدين، فحرم الله على المسلمين أن ينسبوا الدعي لمن تبناه، وحظر عليهم أن يقتطعوا له شيئا من حقوق الابن لا قليلا ولا كثيرا، وشدد الأمر حتى قال: وليس عليكم جناح فيما أخطأتم [ ص: 4872 ] به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورا رحيما فهو يعفو عن اللفظة تصدر من غير قصد بأن يقول الرجل لآخر: هذا ابني. أو ينادى شخص آخر بمثل ذلك، لا عن قصد التبني. ولكنه لا يعفو عن العمد من ذلك، الذي يقصد منه الإلصاق بتلك اللحمة، كما كان معروفا من قبل، مضت سنة الله في خلقه، أن ما رسخ في النفس بحكم العادة، لا يسهل عليها التفصي منه، ولا يقدر على ذلك إلا من رفعه الله فوق العادات، وأعتقه من رق الشهوات، وجعل همته فوق المألوفات. فلا يطبيه -أي: يستميله- إلا الحق، ولا يحكم عليه إلف، ولا يغلبه عرف. ذلك هو النبي صلى الله عليه وسلم، ومن يختصه الله بالتأسي به; لهذا كان الأمر إذا نهى الله عن مكروه كانت الجاهلية عليه، أو أحل شيئا كانت الجاهلية تحرمه، بادر النبي صلى الله عليه وسلم إلى امتثال النهي بالكف عن المنهي عنه، والإتيان بضده، وسارع إلى تنفيذ الأمر بإتيان المأمور به، حتى يكون قدوة حسنة، ومثالا صالحا تحاكيه النفوس، وتحتذيه الهمم، وحتى يخف وزر العادة وتخلص العقول من ريب الشبهة، نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بحرمة الربا، وأول ربا وضعه ربا عمه العباس ، حتى يرى الناس صنيعه بأقرب الناس إليه وأكرمهم عليه، فيسهل عليهم ترك مالهم، وتنقطع وساوس الشيطان من صدورهم.

                                                                                                                                                                                                                                      على هذا السنن الإلهي كان عمل النبي صلى الله عليه وسلم في أمر زينب ، كبر على العرب أن يفصلوا عن أهلهم من ألصقوه بأنسابهم من أدعيائهم; كما دل عليه قوله تعالى: وتخشى الناس إلخ، فعمد النبي صلى الله عليه وسلم، على سنته، إلى خرق العادة بنفسه، وما كان ينبغي له، ولا من مقتضى الحكمة، أن يكلف أحد الأدعياء الأباعد عنه، أن يتزوج، ثم يأمره بالطلاق، ثم يأمر من كان قد تبناه أن يتزوج مطلقته، ففي ذلك من المشقة مع تحكم العادة، وتمكن الاشمئزاز من النفوس، ما لا يخفى على أحد. فألهمه الله أن يتولى الأمر بنفسه في أحد عتقائه; لتسقط العادة بالفعل، كما ألغى حكمها بالقول الفصل; لهذا أرغم النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 4873 ] زينب أن تتزوج بزيد، وهو مولاه وصفية، والنبي يجد في نفسه أن هذا الزواج مقدمة لتقرير شرع، وتنفيذ حكم إلهي.

                                                                                                                                                                                                                                      وبعد أن صارت زينب إلى زيد لم يلن إباؤها الأول، ولم يسلس قيادها، بل شمخت بأنفها وذهبت تؤذي زوجها وتفخر عليه بنسبها، وبأنها أكرم منه عرقا وأصرح منه حرية; لأنه لم يجر عليها رق كما جرى عليه فاشتكى منها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم المرة بعد المرة، وهو عليه السلام مع علو مقامه يغلبه الحياء فيتئد ويتمكث في تنفيذ حكم الله ولا يعجل، فكان يقول لزيد : "أمسك عليك زوجك واتق الله"، إلى أن غلب أمر الله على أمر الأنفة، وسمح لزيد بطلاقها بعد أن مضه العيش معها، ثم تزوجها بعد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ليمزق حجاب تلك العادة، ويكسر ذلك الباب الذي كان مغلقا دون مخالفتها كما قال: لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا وكان أمر الله مفعولا وأكد ذلك بالتصريح في نفي الشبهة بقوله: ما كان محمد أبا أحد من رجالكم الآية. هذه هي الرواية الصحيحة والقولة الراجحة.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم قال: وأما ما رووه من أن النبي مر ببيت زيد وهو غائب، فرأى زينب ، فوقع منها في قلبه شيء، فقال: سبحان مقلب القلوب! فسمعت التسبيحة فنقلتها إلى زيد، فوقع في قلبه أن يطلقها إلخ، ما حكوه- فقد قال الإمام أبو بكر بن العربي إنه لا يصح. وإن الناقلين له المحتجين به على مزاعمهم في فهم الآية، لم يقدروا مقام النبوة حق قدره، ولم تصب عقولهم من معنى العصمة كنهها. وأطال في ذلك، وأذكر من كلامه ما يؤيد ذكرنا في شأن هذه الروايات.

                                                                                                                                                                                                                                      قال، بعد الكلام في عصمة النبي صلى الله عليه وسلم وطهارته من العيب في زمن الجاهلية، وبعد أن جاء الإسلام: وقد مهدنا لك روايات كلها ساقطة الأسانيد، وإنما الصحيح [ ص: 4874 ] منها ما روي عن عائشة أنها قالت: لو كان النبي صلى الله عليه وسلم كاتما شيئا من الوحي لكتم هذه الآية: وإذ تقول للذي أنعم الله عليه يعني بالإسلام: وأنعمت عليه فأعتقته: أمسك عليك زوجك إلى قوله: وكان أمر الله وأن رسول الله لما تزوجها قالوا: تزوج حليلة ابنه، فأنزل الله: ما كان محمد أبا أحد من رجالكم الآية.

                                                                                                                                                                                                                                      وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم تبناه وهو صغير، فلبث حتى صار رجلا، يقال له: زيد ابن محمد. فأنزل الله: ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله يعني أنه أعدل عند الله. قال القاضي: وما وراء هذه الآية غير معتبر. فأما قولهم إن النبي صلى الله عليه وسلم رآها، فوقعت في قلبه، فباطل. فإنه كان معها في كل وقت وموضع، ولم يكن حينئذ حجاب، فكيف تنشأ معه وينشأ معها، ويلحظها في كل ساعة ولا تقع في قلبه، إلا إذا كان لها زوج؟ وقد وهبته نفسها وكرهت غيره، فلم تخطر بباله. فكيف يتجدد هوى لم يكن! حاشا لذلك القلب المطهر من هذه العلاقة الفاسدة، وقد قال سبحانه وتعالى: ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه والنساء أفتن الزهرات، وأنشر الرياحين، فيخالف هذا في المطلقات، فكيف في المنكوحات المحبوسات؟.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم ساق الكلام في نفس الآية على حسب ما صح في الواقعة، ولولا خوف التطويل لنقلت كلامه بحروفه. سبحان الله! كيف ساغ لقوم مسلمين أن يعتقدوا بمثل هذه الروايات، وقد علموا أن الله لم يدع لنبيه أن يعرض عن ابن أم مكتوم ، ويتصدى لصناديد قريش طمعا في إسلامهم، حتى عاتبه على ذلك في قوله: عبس وتولى }، إلى آخر الآيات، مع أنه لم ينصرف عن الأعمى إلا لاشتغاله بما كان يعده في نفسه خيرا للدين، ولم يكن رغبة في جاه، ولا شرها إلى مال، [ ص: 4875 ] ولا طموحا إلى لذة.

                                                                                                                                                                                                                                      فلو صحت الرواية التي زعموها في شأن زينب ، لكان العتاب على تلك التسبيحة، بمسمع من زينب ، ثم على الزواج بعد الطلاق، كما أشار إليه في قصة داود عليه السلام وما كان محمد صلى الله عليه وسلم في علو مقامه ورفعة منزلته من النبوة، لتطمح نفسه إلى التلذذ ببنت عمته وزوجة مولاه، ولا أن يسمعها ما يدل على شغفه بها، ولا أن تضعف عزيمته عن قمع شهوته وكبح جماحها، وما كان رب محمد يعلل شهوته، ويرفه من هواه فيما يخالف أمره، وهو الذي نهاه أن يمد عينيه إلى ما متع به الناس من زهرة الحياة الدنيا، ومن زهرتها النساء. تسامى قدر محمد عن ذلك، وتعالى شأن ربه عن هذا علوا كبيرا.

                                                                                                                                                                                                                                      أما والله! لولا ما أدخل الضعفاء أو المدلسون من مثل هذه الرواية، ما خطر ببال مطلع على الآية الكريمة شيء مما يرمون إليه; فإن نص الآية ظاهر جلي لا يحتمل معناه التأويل، ولا يذهب إلى النفس منه إلا أن العتاب كان على التمهل في الأمر، والتريث به، وأن الذي كان يخفيه في نفسه هو ذلك الأمر الإلهي الصادر إليه، بأن يهدم تلك العادة المتأصلة في نفوس العرب، وأن يتناول المعول لهدمها بنفسه; كما قدر له أن يهدم أصنامهم بيده لأول مرة عند فتح مكة، وكما هو شأنه في جميع ما نهى عنه من عاداتهم، وهذا الذي كان يخفيه في نفسه كان الله مبديه بأمره الذي أوحاه إليه في كتابه، وبتزويجه زوجة من كانوا يدعونه ابنا له، كما تقدم بيانه، ولم يكن يمنعه عن إبداء ما أبدى الله، إلا حياء الكريم، وتؤدة الحكيم، مع العلم بأنه سيفعل لا محالة، لكن مع معاونة الزمان.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم قال الإمام رحمه الله: أذكر لطيفة لبعض الأذكياء جرت بمحضر مني لدى أحد الأساتذة الأميركانيين، فجاء في الحديث ذكر قوله تعالى: الذي أحسن كل شيء خلقه فقال الأميركي: حتى زينب زوجة زيد بن حارثة ، يشير بقوله هذا إلى تلك الحادثة، ويعرض بعشقه صلى الله عليه وسلم لزينب على ما زعموا، فقال له صاحبي: سبحان الله! إنكم تشتغلون بعلوم السماوات [ ص: 4876 ] والأرض، ولا تستعملون عقولكم في أقرب الأشياء إليكم، مع أنكم، في المشهور عنكم، من أشد الناس ولعا بالبحث في الأديان، إن الله أمر نبيه أن يتزوج زوجة من دعاه ابنا له، ليبين للناس بالفعل أنه ليس كل من لقب بالابن يكون على الحقيقة ابنا، فإن كان المسيح قد دعي في لسان الإنجيل بـ (الابن) فليس هذا على الحقيقة، وإنما (الابن) الحقيقي من ولد من أبيه ولادة صحيحة، إن في ذلك لذكرى للعالمين. والله أعلم. انتهى كلامه رحمه الله تعالى.

                                                                                                                                                                                                                                      الخامس -روى الإمام أحمد ومسلم والنسائي عن أنس قال: لما انقضت عدة زينب رضي الله عنها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة : « اذهب فاذكرها علي » . فانطلق حتى أتاها وهي تخمر عجينها. قال: فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها وأقول إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها. فوليتها ظهري ونكصت على عقبي وقلت: يا زينب ! أبشري. أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك. قالت: ما أنا بصانعة شيئا حتى أؤامر ربي عز وجل. فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليها بغير إذن، ولقد رأيتنا حين دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم، أطعمنا عليها الخبز واللحم.

                                                                                                                                                                                                                                      قال الحافظ ابن حجر: وهذا أيضا من أبلغ ما وقع في ذلك: وهو أن يكون الذي كان زوجها هو الخاطب، لئلا يظن أحد أن ذلك وقع قهرا بغير رضاه، وفيه أيضا اختبار ما كان عنده منها; هل بقي منه شيء أم لا؟ وفيه استحباب فعل المرأة الاستخارة ودعائها عند الخطبة قبل الإجابة، وأن من وكل أمره إلى الله عز وجل، يسر الله له ما هو الأحظ له والأنفع دنيا وأخرى. انتهى. أي: فقد حفظ الله شرفها أن يضيع بعد زواجها بمولى. فاختار لها ما شرفها به وأسمى مكانتها، عناية منه ورحمة للأمة أيضا.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 4877 ] السادس- روى ابن جرير عن الشعبي قال: كانت زينب رضي الله عنها تقول للنبي صلى الله عليه وسلم إني لأدل عليك بثلاث، ما من نسائك امرأة تدل بهن: إن جدي وجدك واحد، وإني أنكحنيك الله عز وجل من السماء، وإن السفير لجبريل عليه السلام.

                                                                                                                                                                                                                                      وروى البخاري بعضه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: إن زينب كانت تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فتقول: زوجكن أهاليكن، وزوجني الله تعالى من فوق سبع سمـاوات. قال ابن القيم في (زاد المعاد): ومن خصائص زينب أن الله سبحانه كان هو وليها الذي زوجها لرسوله من فوق سماواته، وتوفيت في أول خلافة عمر بن الخطاب .

                                                                                                                                                                                                                                      وكانت أولا عند زيد بن حارثة ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم تبناه، فلما طلقها زوجه الله إياها لتتأسى به أمته في نكاح أزواج من تبنوه. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      السابع- قالوا: لا ينقض عموم قوله تعالى: من رجالكم بكونه صلى الله عليه وسلم أبا للطاهر والقاسم وإبراهيم; لأنهم لم يبلغوا الحلم، ولو بلغوا لكانوا رجالا له، صلى الله عليه وسلم، لا لهم. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا من التعمق في البحث، وإلا فدلالة السياق أوضح من تخصيص الإضافة.

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن كثير : لم يعش له عليه الصلاة والسلام ولد ذكر، حتى بلغ الحلم; فإنه صلى الله عليه وسلم ولد له القاسم والطيب والطاهر من خديجة رضي الله عنها، فماتوا صغارا، وولد له صلى الله عليه وسلم إبراهيم من مارية القبطية، فمات أيضا رضيعا، وكان له صلى الله عليه وسلم من خديجة أربع بنات: زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة ، رضي الله عنهن أجمعين، فمات في حياته صلى الله عليه وسلم ثلاث، وتوفيت فاطمة بعده بستة أشهر. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 4878 ] ثم أمر تعالى بكثرة ذكره، والعناية بشكره لما من به من هدايته، إلى نور شريعته حتى ينسى عار الكفر وجاهليته، بقوله سبحانه:

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية