الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              [ ص: 404 ] المسألة السابعة

              الأوامر والنواهي ضربان :

              صريح ، وغير صريح .

              فأما الصريح فله نظران .

              أحدهما : من حيث مجرده لا يعتبر فيه علة مصلحية ، وهذا نظر من يجري مع مجرد الصيغة مجرى التعبد المحض من غير تعليل ، فلا فرق عند صاحب هذا النظر بين أمر وأمر ولا بين نهي ونهي كقوله أقيموا الصلاة مع قوله : اكلفوا من العمل ما لكم به طاقة ، وقوله : فاسعوا إلى ذكر الله [ الجمعة : 9 ] مع قوله : وذروا البيع [ الجمعة : 9 ] ، وقوله : ولا تصوموا يوم النحر مثلا مع قوله : لا تواصلوا .

              [ ص: 405 ] وما أشبه ذلك مما يفهم فيه التفرقة بين الأمرين ، وهذا نحو ما في الصحيح أنه - عليه الصلاة والسلام - خرج على أبي بن كعب ، وهو يصلي فقال - عليه الصلاة والسلام - : يا أبي فالتفت إليه ولم يجبه وصلى فالتفت إليه ولم يجبه وصلى فخفف ثم انصرف ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أبي ، ما منعك أن تجيبني إذا دعوتك ؟ فقال : يا رسول الله ، كنت أصلي ، فقال : أفلم تجد فيما أوحي إلي : استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم [ الأنفال : 24 ] قال : بلى يا رسول الله ولا أعود إن شاء الله .

              وهو في البخاري عن أبي سعيد بن المعلى ، وأنه صاحب القصة فهذا منه - عليه الصلاة والسلام - إشارة إلى النظر لمجرد الأمر ، وإن كان ثم معارض .

              وفي أبي داود أن ابن مسعود جاء يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فسمعه يقول : اجلسوا فجلس بباب المسجد فرآه النبي صلى الله عليه وسلم فقال له : تعال يا [ ص: 406 ] عبد الله . وسمع عبد الله بن رواحة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو بالطريق يقول : اجلسوا فجلس بالطريق فمر به - عليه الصلاة والسلام - فقال : ما شأنك ؟ فقال : سمعتك تقول اجلسوا فقال له : زادك الله طاعة .

              [ ص: 407 ] وفي البخاري قال - عليه الصلاة والسلام - يوم الأحزاب : لا يصل أحد العصر إلا في بني قريظة فأدركهم وقت العصر في الطريق فقال بعضهم لا نصلي حتى نأتيها ، وقال بعضهم ، بل نصلي ولم يرد منا ذلك فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحدة من الطائفتين .

              [ ص: 408 ] [ ص: 409 ] وكثير من الناس فسخوا البيع الواقع في وقت النداء لمجرد قوله تعالى : وذروا البيع [ الجمعة : 9 ] .

              وهذا وجه من الاعتبار يمكن الانصراف إليه والقول به عاما ، وإن كان غيره أرجح منه وله مجال في النظر منفسح ، فمن وجوهه أن يقال : لا يخلو أن نعتبر في الأوامر والنواهي المصالح أولا ، فإن لم نعتبرها فذلك أحرى في الوقوف مع مجردها ، وإن اعتبرناها فلم يحصل لنا من معقولها أمر يتحصل عندنا دون اعتبار الأوامر والنواهي ، فإن المصلحة وإن علمناها على الجملة فنحن جاهلون بها على التفصيل ، فقد علمنا أن حد الزنا مثلا لمعنى الزجر بكونه في [ ص: 410 ] المحصن الرجم دون ضرب العنق ، أو الجلد إلى الموت ، أو إلى عدد معلوم ، أو السجن ، أو الصوم ، أو بذل مال كالكفارات ، وفي غير المحصن جلد مائة ، وتغريب عام دون الرجم ، أو القتل ، أو زيادة عدد الجلد على المائة ، أو نقصانه عنها إلى غير ذلك من وجوه الزجر الممكنة في العقل .

              هذا كله لم نقف على تحقيق المصلحة فيما حد فيه على الخصوص دون غيره ، وإذا لم نعقل ذلك ولا يمكن ذلك للعقول دل على أن فيما حد من ذلك مصلحة لا نعلمها ، وهكذا يجرى الحكم في سائر ما يعقل معناه أما التعبدات ، فهي أحرى بذلك فلم يبق لنا إذا وزر دون الوقوف مع مجرد الأوامر والنواهي .

              وكثيرا ما يظهر لنا ببادئ الرأي للأمر ، أو النهي معنى مصلحي ، ويكون في نفس الأمر بخلاف ذلك يبينه نص آخر يعارضه ، فلا بد من الرجوع إلى ذلك النص دون اعتبار ذلك المعنى .

              وأيضا فقد مر في كتاب المقاصد أن كل أمر ، ونهي لا بد فيه من معنى [ ص: 411 ] تعبدي ، وإذا ثبت هذا لم يكن لإهماله سبيل فكل معنى يؤدى إلى عدم اعتبار مجرد الأمر والنهي لا سبيل إلى الرجوع إليه ، فإذا المعنى المفهوم للأمر والنهي إن كر عليه بالإهمال ، فلا سبيل إليه ، وإلا فالحاصل الرجوع إلى الأمر والنهي دونه فآل الأمر في القول باعتبار المصالح أنه لا سبيل إلى اعتبارها مع الأمر والنهي ، وهو المطلوب .

              ولا يقال : إن عدم الالتفات إلى المعاني إعراض عن مقاصد الشارع المعلومة كما في قول القائل لا يجوز الوضوء بالماء الذي بال فيه الإنسان ، فإن كان قد بال في إناء ، ثم صبه في الماء جاز الوضوء به ; لأنا نقول : هذا أيضا معارض بما يضاده في الطرف الآخر في تتبع المعاني مع إلغاء الصيغ كما قيل : في قوله - عليه الصلاة والسلام - : في أربعين شاة شاة إن المعنى قيمة شاة ; لأن المقصود سد الخلة ، وذلك حاصل [ ص: 412 ] بقيمة الشاة فجعل الموجود معدوما والمعدوم موجودا ، وأدى ذلك إلى أن لا تكون الشاة واجبة ، وهو عين المخالفة ، وأشباه ذلك من أوجه المخالفة الناشئة عن تتبع المعاني .

              وإذا كانت المعاني غير معتبرة بإطلاق ، وإنما تعتبر من حيث هي مقصود الصيغ فاتباع أنفس الصيغ التي هي الأصل واجب ; لأنها مع المعاني كالأصل مع الفرع ولا يصح اتباع الفرع مع إلغاء الأصل ، ويكفي من التنبيه على رجحان هذا النحو ما ذكر .

              والثاني من النظرين هو من حيث يفهم من الأوامر والنواهي قصد شرعي بحسب الاستقراء ، وما يقترن بها من القرائن الحالية ، أو المقالية الدالة على [ ص: 413 ] أعيان المصالح في المأمورات والمفاسد في المنهيات ، فإن المفهوم من قوله : أقيموا الصلاة المحافظة عليها والإدامة لها ، ومن قوله : اكلفوا من العمل ما لكم به طاقة الرفق بالمكلف خوف العنت ، أو الانقطاع لا أن المقصود نفس التقليل من العبادة ، أو ترك الدوام على التوجه لله .

              وكذلك قوله : فاسعوا إلى ذكر الله [ الجمعة : 9 ] مقصوده الحفظ على إقامة الجمعة وعدم التفريط فيها لا الأمر بالسعي إليها فقط .

              وقوله : وذروا البيع [ الجمعة : 9 ] جار مجرى التوكيد لذلك بالنهي عن ملابسة الشاغل عن السعي لا أن المقصود النهي عن البيع مطلقا في ذلك الوقت على حد النهي عن بيع الغرر ، أو بيع الربا ، أو نحوهما .

              وكذلك إذا قال : لا تصوموا يوم النحر المفهوم منه مثلا قصد الشارع إلى ترك إيقاع الصوم فيه خصوصا ، ومن قوله : لا تواصلوا ، أو قوله : لا [ ص: 414 ] تصوموا الدهر الرفق بالمكلف أن لا يدخل فيما لا يحصيه ولا يدوم عليه ولذلك كان - عليه الصلاة والسلام - يواصل ويسرد الصوم .

              وكذلك سائر الأوامر والنواهي التي مغزاها راجع إلى هذا المعنى ، كما أنه قد يفهم من مغزى الأمر والنهي الإباحة ، وإن كانت الصيغة لا تقتضي بوضعها الأصلي ذلك ، كقوله تعالى : وإذا حللتم فاصطادوا [ المائدة : 2 ] ، فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض [ الجمعة : 10 ] ; إذ علم قطعا أن مقصود [ ص: 415 ] الشارع ليس ملابسة الاصطياد عند الإحلال ولا الانتشار عند انقضاء الصلاة وإنما مقصوده أن سبب المنع من هذه الأشياء قد زال ، وهو انقضاء الصلاة وزوال حكم الإحرام فهذا النظر يعضده الاستقراء أيضا .

              وقد مر منه أمثلة .

              وأيضا فقد قام الدليل على اعتبار المصالح شرعا ، وأن الأوامر والنواهي مشتملة عليها فلو تركنا اعتبارها على الإطلاق لكنا قد خالفنا الشارع من حيث قصدنا موافقته ، فإن الفرض أن هذا الأمر وقع لهذه المصلحة ، فإذا ألغينا النظر فيها في التكليف بمقتضى الأمر كنا قد أهملنا في الدخول تحت حكم الأمر ما اعتبره الشارع فيه فيوشك أن نخالفه في بعض موارد ذلك الأمر ، وذلك أن الوصال وسرد الصيام قد جاء النهي عنه ، وقد واصل - عليه الصلاة والسلام - بأصحابه حين نهاهم فلم ينتهوا .

              [ ص: 416 ] وفي هذا أمران إن أخذنا بظاهر النهي .

              أحدهما : أنه نهاهم فلم ينتهوا فلو كان المقصود من النهي ظاهره لكانوا قد عاندوا نهيه بالمخالفة مشافهة ، وقابلوه بالعصيان صراحا ، وفي القول بهذا ما فيه .

              والآخر أنه واصل بهم حين لم يمتثلوا نهيه ولو كان النهي على ظاهره لكان تناقضا ، وحاشى لله من ذلك ، وإنما كان ذلك النهي للرفق بهم خاصة ، وإبقاء عليهم فلما لم يسامحوا أنفسهم بالراحة وطلبوا فضيلة احتمال التعب في مرضاة الله أراد - عليه الصلاة والسلام - أن يريهم بالفعل ما نهاهم لأجله ، وهو دخول المشقة حتى يعلموا أن نهيه - عليه الصلاة والسلام - هو الرفق بهم والأخلق بالضعفاء الذين لا يصبرون على احتمال اللأواء في مرضاة ربهم .

              وأيضا فإن النبي - عليه الصلاة والسلام - نهى عن أشياء ، وأمر بأشياء ، وأطلق القول فيها إطلاقا ليحملها المكلف في نفسه ، وفي غيره على التوسط لا على مقتضى الإطلاق الذي يقتضيه لفظ الأمر والنهي فجاء الأمر بمكارم الأخلاق وسائر الأمور المطلقة والنهي عن مساوئ الأخلاق وسائر المناهي المطلقة .

              وقد تقدم أن المكلف جعل له النظر فيها بحسب ما يقتضيه حاله ومنته ، ومثل ذلك لا يتأتى مع الحمل على الظاهر مجردا من الالتفات إلى المعاني .

              وقد نهى - عليه الصلاة والسلام - عن بيع الغرر ، وذكر منه أشياء كبيع [ ص: 417 ] الثمرة قبل أن تزهى وبيع حبل الحبلة والحصاة ، وغيرها .

              وإذا أخذنا بمقتضى مجرد الصيغة امتنع علينا بيع كثير مما هو جائز بيعه ، [ ص: 418 ] وشراؤه كبيع الجوز واللوز والقسطل في قشرها ، وبيع الخشبة والمغيبات في الأرض والمقاثي كلها ، بل كان يمتنع كل ما فيه وجه مغيب كالديار والحوانيت المغيبة الأسس والأنقاض ، وما أشبه ذلك مما لا يحصى ولم يأت فيه نص بالجواز ، ومثل هذا لا يصح فيه القول بالمنع أصلا ; لأن الغرر المنهي عنه محمول على ما هو معدود عند العقلاء غررا مترددا بين السلامة والعطب فهو مما خص بالمعنى المصلحي ولا يتبع فيه اللفظ بمجرده .

              [ ص: 419 ] وأيضا فالأوامر والنواهي من جهة اللفظ على تساو في دلالة الاقتضاء والتفرقة بين ما هو منها أمر وجوب ، أو ندب ، وما هو نهي تحريم ، أو كراهة لا تعلم من النصوص ، وإن علم منها بعض فالأكثر منها غير معلوم ، وما حصل لنا الفرق بينها إلا باتباع المعاني والنظر إلى المصالح ، وفي أي مرتبة تقع ، وبالاستقراء المعنوي ولم نستند فيه لمجرد الصيغة ، وإلا لزم في الأمر أن لا يكون في الشريعة إلا على قسم واحد لا على أقسام متعددة والنهي كذلك أيضا ، بل نقول : كلام العرب على الإطلاق لا بد فيه من اعتبار معنى المساق في دلالة الصيغ ، وإلا صار ضحكة وهزأة ألا ترى إلى قولهم فلان أسد ، أو حمار ، أو عظيم الرماد ، أو جبان الكلب ، وفلانة بعيدة مهوى القرط ، وما لا [ ص: 420 ] ينحصر من الأمثلة لو اعتبر اللفظ بمجرده لم يكن له معنى معقول فما ظنك بكلام الله ، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم .

              وعلى هذا المساق يجري التفريق بين البول في الماء الدائم وصبه من الإناء فيه .

              وقد حكى إمام الحرمين عن ابن سريج أنه ناظر أبا بكر بن داود الأصبهاني في القول بالظاهر فقال له ابن سريج أنت تلتزم الظواهر .

              وقد قال تعالى : فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره [ الزلزلة : 7 ] فما تقول فيمن يعمل مثقال ذرتين فقال مجيبا الذرتان ذرة وذرة فقال ابن سريج فلو عمل مثقال ذرة ونصف ؟ فتبلد وانقطع .

              وقد نقل عياض عن بعض العلماء أن مذهب داود بدعة ظهرت بعد المائتين ، وهذا وإن كان تغاليا في رد العمل بالظاهر فالعمل بالظواهر أيضا [ ص: 421 ] على تتبع وتغال بعيد عن مقصود الشارع كما أن إهمالها إسراف أيضا كما تقدم تقريره في آخر كتاب المقاصد ، وسيذكر بعد إن شاء الله تعالى .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية