الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( فصل ) :

                                                                                                                                وأما بيان من هو أحق بالإمامة وأولى بها فالحر أولى بالإمامة من العبد ، والتقي أولى من الفاسق ، والبصير أولى من الأعمى ، وولد الرشدة أولى من ولد الزنا ، وغير الأعرابي من هؤلاء أولى من الأعرابي لما قلنا ، ثم أفضل هؤلاء أعلمهم بالسنة وأفضلهم ورعا وأقرؤهم لكتاب الله - تعالى - وأكبرهم سنا ، ولا شك أن هذه الخصال إذا اجتمعت في إنسان كان هو أولى ، لما بينا أن بناء أمر الإمامة على الفضيلة والكمال ، والمستجمع فيه هذه الخصال من أكمل الناس ، أما العلم والورع وقراءة القرآن فظاهر .

                                                                                                                                وأما كبر السن فلأن من امتد عمره في الإسلام كان أكثر طاعة ومداومة على الإسلام ، فأما إذا تفرقت في أشخاص فأعلمهم بالسنة أولى إذا كان يحسن من القراءة ما تجوز به الصلاة ، وذكر في كتاب الصلاة وقدم الأقرأ فقال : ويؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله - تعالى - وأعلمهم بالسنة وأفضلهم ورعا وأكبرهم سنا ، والأصل فيه ما روي عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { ليؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله ، فإن كانوا سواء فأعلمهم بالسنة ، فإن كانوا سواء فأقدمهم هجرة ، فإن كانوا سواء فأكبرهم سنا ، فإن كانوا سواء فأحسنهم خلقا ، فإن كانوا سواء فأصبحهم وجها } ، ثم من المشايخ من أجرى الحديث على ظاهره وقدم الأقرأ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ به ، والأصح أن الأعلم بالسنة إذا كان يحسن من القراءة ما تجوز به الصلاة فهو أولى ، كذا ذكر في آثار أبي حنيفة لافتقار الصلاة بعد هذا القدر من القراءة إلى العلم ليتمكن به من تدارك ما عسى أن يعرض في الصلاة من العوارض ، وافتقار القراءة أيضا إلى العلم بالخطأ المفسد للصلاة فيها ، فلذلك كان الأعلم أفضل حتى قالوا : إن الأعلم إذا كان ممن يجتنب الفواحش الظاهرة [ ص: 158 ] والأقرأ أورع منه - فالأعلم أولى ، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم الأقرأ في الحديث ; لأن الأقرأ في ذلك الزمان كان أعلم لتلقيهم القرآن بمعانيه وأحكامه ، فأما في زماننا فقد يكون الرجل ماهرا في القرآن ولا حظ له من العلم ، فكان الأعلم أولى ، فإن استووا في العلم فأورعهم ; لأن الحاجة بعد العلم والقراءة بقدر ما يتعلق به الجواز إلى الورع أشد ، قال النبي صلى الله عليه وسلم { من صلى خلف عالم تقي فكأنما صلى خلف نبي } ، وإنما قدم أقدمهم هجرة في الحديث ; لأن الهجرة كانت فريضة يومئذ ثم نسخت بقوله صلى الله عليه وسلم : { لا هجرة بعد الفتح } ، فيقدم الأورع لتحصل به الهجرة عن المعاصي ، فإن استووا في الورع فأقرؤهم لكتاب الله - تعالى - لقول النبي صلى الله عليه وسلم : { أهل القرآن أهل الله وخاصته } ، فإن استووا في القراءة فأكبرهم سنا لقوله صلى الله عليه وسلم : { الكبر الكبر } فإن ، كانوا فيه سواء فأحسنهم خلقا ; لأن حسن الخلق من باب الفضيلة ، ومبنى الإمامة على الفضيلة ، فإن كانوا فيه سواء فأحسنهم وجها ; لأن رغبة الناس في الصلاة خلفه أكثر ، وبعضهم قالوا : معنى قوله - في الحديث - أحسنهم وجها أي أكثرهم خبرة بالأمور ، يقال : وجه هذا الأمر كذا ، وقال بعضهم : أي : أكثرهم صلاة بالليل ، كما جاء في الحديث { من كثر صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار } ، ولا حاجة إلى هذا التكلف ; لأن الحمل على ظاهره ممكن لما بينا أن ذلك من أحد دواعي الاقتداء ، فكانت إمامته سببا لتكثير الجماعة فكان هو أولى .

                                                                                                                                ويكره للرجل أن يؤم الرجل في بيته إلا بإذنه ، لما روينا من حديث أبي سعيد مولى بني أسيد ، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم : { لا يؤم الرجل الرجل في سلطانه ، ولا يجلس على تكرمة أخيه إلا بإذنه ، فإنه أعلم بعورات بيته } ، وفي رواية في بيته ; ولأن في التقدم عليه ازدراء به بين عشائره وأقاربه ، وذا لا يليق بمكارم الأخلاق .

                                                                                                                                ولو أذن له لا بأس به ; لأن الكراهة كانت لحقه ، وذكر محمد في غير رواية الأصول أن الضيف إذا كان ذا سلطان جاز له أن يؤم بدون الإذن ; لأن الإذن لمثل هذا الضيف ثابت دلالة ، وإنه كالإذن نصا وأما إذا كان الضيف سلطانا فحق الإمامة له حيثما يكون ، وليس للغير أن يتقدم عليه إلا بإذنه والله أعلم .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية