الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 339 ] كتاب الحجر

                                                                                                                                            أما الحجر فهو من كلامهم المنع ، سمي به لأن المحجور عليه ممنوع من التصرف باختياره .

                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " والأصل فيه قوله تعالى : وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم [ النساء : 6 ] " ، قال الماوردي : فمعنى قوله ( ابتلوا ) أي اختبروا ، وقوله ( اليتامى ) هم الصغار الذين ليس لهم آباء ؛ لأن اليتم في الآدميين بموت الآباء وفي البهائم بموت الأمهات ، لأن البهيمة تنسب إلى أمها فكان يتمها بموت الأم ، والآدمي ينسب إلى أبيه فكان يتمه بموت الأب ، وقوله حتى إذا بلغوا النكاح [ النساء : 6 ] يعني الاحتلام لأن بالاحتلام يتوجه إليه التكليف ويزول عنه اليتم .

                                                                                                                                            قال النبي صلى الله عليه وسلم لا يتم بعد حلم .

                                                                                                                                            وقوله فإن آنستم أي علمتم منهم رشدا ، في الرشد ثلاثة تأويلات :

                                                                                                                                            أحدها : أنه العقل وهو قول مجاهد والشعبي .

                                                                                                                                            والثاني : أنه العقل والصلاح في الدين وهو قول السدي .

                                                                                                                                            والثالث : أنه الصلاح في الدين والصلاح في المال وهو قول ابن عباس ، والحسن البصري ، وإليه ذهب الشافعي ، ثم قال تعالى : فادفعوا إليهم أموالهم [ النساء : 6 ] يعني التي تحت أيديكم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا أي لا تأخذوها إسرافا يعني على غير ما أباح الله لكم [ ص: 340 ] وأصل الإسراف : تجاوز الحد المباح .

                                                                                                                                            وبدارا أن يكبروا يعني تأكل مال اليتيم مبادرا أن يبلغ فيحول بينه وبين ماله .

                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ومن كان غنيا فليستعفف [ النساء : 6 ] يعني بمال نفسه عن مال اليتيم ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف اختلفوا في معنى هذا الأكل المباح للفقير على أربعة أقاويل :

                                                                                                                                            أحدها : أنه القرض ، يستقرض ثم يقضي إذا وجد وهو قول عمر وابن عباس وجمهور التابعين .

                                                                                                                                            والثاني : أنه يأكل ما سد الجوعة ، ويلبس ما وارى العورة ولا قضاء ، وهو قول إبراهيم ، ومكحول ، وقتادة .

                                                                                                                                            والثالث : أن يأكل من ثمره ويشرب من رسل ماشيته من غير تعرض لما سوى ذلك من فضة أو ذهب ، وهو قول أبي العالية والشعبي .

                                                                                                                                            والرابع : أن يأخذ إذا كان محتاجا أجرة عمله معلومة على قدر خدمته ، وهو قول عطاء .

                                                                                                                                            ومن الدلالة على الحجر أيضا قوله عز وجل : فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل [ البقرة : 282 ] .

                                                                                                                                            أما السفيه ففيه تأويلان :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه الجاهل بالصواب فيما له وعليه ، وهذا قول مجاهد .

                                                                                                                                            والثاني : أنه المبذر لماله المفسد له في الجهات المحرمة ، وهذا أصح وإليه ذهب الشافعي لأنه أليق بمعنى اللفظ .

                                                                                                                                            أما الضعيف ففيه ثلاثة تأويلات :

                                                                                                                                            أحدها : أنه الأحمق ؛ وهو قول مجاهد والسدي .

                                                                                                                                            والثاني : أنه ضعيف الرأي والتدبير من صغر أو كبر .

                                                                                                                                            والثالث : أنه الصغير الذي يضعف عن القيام بأمره والتصرف في ماله ، وإليه ذهب الشافعي .

                                                                                                                                            " أما الذي لا يستطيع أن يمل هو " ففيه ثلاثة تأويلات :

                                                                                                                                            أحدها : أنه الأخرس ، وهو قول ابن عباس .

                                                                                                                                            [ ص: 341 ] والثاني : أنه الممنوع بحبس أو غيبة .

                                                                                                                                            والثالث : أنه المغلوب على عقله ، وإليه ذهب الشافعي رضي الله عنه ، لأن الخرس والغيبة لا يوجبان الحجر .

                                                                                                                                            وأما قوله تعالى : فليملل وليه بالعدل [ البقرة : 282 ] ففيه ثلاثة تأويلات :

                                                                                                                                            أحدها : أنه يريد ولي الحق وهو صاحبه ، أن يعدل في إملائه ومطالبته بالحق ، وهو قول ابن عباس .

                                                                                                                                            والثاني : أنه على ولي من عليه الحق فيما لزم من أرش جناية أو قيمة متلف ، وهذا قول الضحاك .

                                                                                                                                            والثالث : أن معنى الآية في قوله تعالى : فإن كان الذي عليه الحق [ البقرة : 282 ] بمعنى الذي له الحق فأقام عليه بمعنى له ، لأن حروف الجر يقوم بعضها مقام بعض ، فدلت هاتان الآيتان على الحجر .

                                                                                                                                            أما الآية الأولى فوجه الدليل منها أنه لما أمر بدفع أموال اليتامى بوجود شرطين وهما : البلوغ والرشد ، اقتضى أن لا يدفع إليهم أموالهم قبل وجود هذين الشرطين ، وهذا هو الحجر .

                                                                                                                                            وأما الآية الثانية فوجه الدليل منها أنه لما أمر بالإملاء عن السفيه والضعيف دل على أن ذلك يمنعهم من التصرف واستحقاق الولاية عليهما .

                                                                                                                                            وأما السنة فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ( أنه حجر على معاذ بدينه ) فلما أوقع الحجر لحق الغير كان وقوعه لنفسه أولى .

                                                                                                                                            وروي أن قوم حبان بن منقذ سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحجر عليه لأنه كان يخدع في بياعاته ، فحجر عليه حجر مثله ولم يجعل عقوده منبرمة ، وجعل له خيار ثلاث ، وقال له : إذا ابتعت فقل لا خلابة في الإسلام ، وأما الإجماع فهو ما كان من حديث عبد الله بن جعفر حين سأل علي بن أبي طالب رضي الله عنه عثمان بن عفان أن يحجر عليه ، وإجماع باقي الصحابة على جواز الحجر حتى كان من شأن عبد الله ما سنذكره .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية