الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( فصل ) :

                                                                                                                                وأما بيان حكم الحوالة .

                                                                                                                                فنقول وبالله التوفيق : الحوالة لها أحكام ( منها ) : براءة المحيل ، وهذا عند أصحابنا الثلاثة ، وقال زفر : الحوالة لا توجب براءة المحيل ، والحق في ذمته بعد الحوالة ، على ما كان عليه قبلها ، كالكفالة سواء .

                                                                                                                                ( وجه ) قوله أن الحوالة شرعت وثيقة للدين ، كالكفالة ، وليس من الوثيقة براءة الأول ، بل الوثيقة في مطالبة الثاني ، مع بقاء الدين على حاله في ذمة الأول من غير تغيير ، كما في الكفالة سواء .

                                                                                                                                ( ولنا ) أن الحوالة مشتقة من التحويل وهو النقل ، فكان معنى الانتقال لازما فيها ، والشيء إذا انتقل إلى موضع لا يبقى في المحل الأول ضرورة ، ومعنى الوثيقة يحصل بسهولة الوصول من حيث الملاءة والإنصاف .

                                                                                                                                ولو كفل بشرط براءة الأصيل ; جاز وتكون حوالة ; لأنه أتى بمعنى الحوالة ، واختلف مشايخنا المتأخرون في كيفية النقل ، مع اتفاقهم على ثبوت أصله موجبا للحوالة ، قال بعضهم : إنها نقل المطالبة والدين جميعا ، وقال بعضهم : إنها نقل المطالبة فحسب ، فأما أصل الدين فباق في ذمة المحيل .

                                                                                                                                ( وجه ) قول الأولين : دلالة الإجماع والمعقول ( أما ) دلالة الإجماع ; فلأنا أجمعنا على أنه لو أبرأ المحال عليه من الدين ، أو وهب الدين منه ; صحت البراءة والهبة ، ولو أبرأ المحيل من الدين أو وهب الدين منه ; لا يصح .

                                                                                                                                ولولا أن الدين انتقل إلى ذمة المحال عليه ، وفرغت ذمة المحيل عن الدين ; لما صح الأول ; لأن الإبراء عن الدين ، وهبة الدين ولا دين محال ، ولصح الثاني ; لأن الإبراء عن دين ثابت ، وهبته منه صحيح - وإن تأخرت المطالبة - كالإبراء عن الدين المؤجل .

                                                                                                                                ( وأما ) المعقول ; فلأن الحوالة توجب النقل ; لأنها [ ص: 18 ] مشتقة من التحويل ، وهو النقل ; فيقتضي نقل ما أضيف إليه ، وقد أضيف إلى الدين لا إلى المطالبة ; لأنه إذا قال : أحلت بالدين ، أو أحلت فلانا بدينه ; فيوجب انتقال الدين إلى المحال عليه ، إلا أنه إذا انتقل أصل الدين إليه ; تنتقل المطالبة ; لأنها تابعة .

                                                                                                                                ( وجه ) قول الآخرين : دلالة الإجماع والمعقول ( أما ) دلالة الإجماع : فإن المحيل إذا قضى دين الطالب بعد الحوالة قبل أن يؤدي المحال عليه ; لا يكون متطوعا ، ويجبر على القبول .

                                                                                                                                ولو لم يكن عليه دين لكان متطوعا ، فينبغي أن لا يجبر على القبول ، كما إذا تطوع أجنبي بقضاء دين إنسان على غيره ، وكذلك المحال : لو أبرأ المحال عليه عن دين الحوالة ; لا يرتد برده .

                                                                                                                                ولو وهبه منه ; يرتد برده ، كما إذا أبرأ الطالب الكفيل ، أو وهب منه .

                                                                                                                                ولو انتقل الدين إلى ذمة المحال عليه ; لما اختلف حكم الإبراء والهبة ، ولا ارتدا جميعا بالرد ، كما لو أبرأ الأصيل ، أو وهب منه ، وكذلك المحال لو أبرأ المحال عليه عن دين الحوالة ; لا يرجع على المحيل ، وإن كانت الحوالة بأمره كما في الكفالة .

                                                                                                                                ولو وهب الدين منه ; له أن يرجع عليه ; إذا لم يكن للمحيل عليه دين ، كما في الكفالة .

                                                                                                                                ولو كان له عليه دين ; يلتقيان قصاصا كالكفالة سواء ، فدلت هذه الأحكام على التسوية بين الحوالة والكفالة ، ثم إن الدين في باب الكفالة ثابت في ذمة الأصيل ، فكذا في الحوالة .

                                                                                                                                ( وأما ) المعقول : فهو أن الحوالة شرعت وثيقة للدين - بمنزلة الكفالة - وليس من الوثيقة إبراء الأول ، بل الوثيقة في نقل المطالبة مع قيام أصل الدين في ذمة المحيل .

                                                                                                                                ( ومنها ) : ثبوت ولاية المطالبة للمحال على المحال عليه بدين في ذمته ، أو في ذمة المحيل على حسب ما ذكرنا من اختلاف المشايخ فيه ; لأن الحوالة أوجبت النقل إلى ذمة المحال عليه بدين في ذمته ، إما نقل الدين والمطالبة جميعا ، وإما نقل المطالبة لا غير ، وذلك يوجب حق المطالبة للمحال على المحال عليه .

                                                                                                                                ( ومنها ) : ثبوت حق الملازمة للمحال عليه على المحيل إذا لازمه المحال فكلما لازمه المحال ; فله أن يلازم المحيل ليتخلص عن ملازمة المحال ، وإذا حبسه : له أن يحبسه إذا كانت الحوالة بأمر المحيل ، ولم يكن على المحال عليه دين مثله للمحيل ; لأنه هو الذي أوقعه في هذه العهدة ; فعليه تخليصه منها ، وإن كانت الحوالة بغير أمره ، أو كانت بأمره ، ولكن للمحيل على المحال عليه دين مثله ، والحوالة مقيدة ; لم يكن للمحال عليه أن يلازم المحيل إذا لوزم ، ولا أن يحبسه إذا حبس ; لأن الحوالة إذا كانت بغير أمر المحيل ; كان المحال عليه متبرعا ، وإن كان للمحيل عليه دين مثله ، وقيد الحوالة به فلو لازمه المحال عليه ; لكان للمحيل أن يلازمه أيضا ; فلا يفيد ، والله عز وجل أعلم .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية