الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 529 ] القول في تأويل قوله تعالى : ( ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب ( 9 ) )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره ، مخبرا عن قيل موسى لقومه : يا قوم ( ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم ) ، يقول : خبر الذين من قبلكم من الأمم التي مضت قبلكم ( قوم نوح وعاد وثمود ) ، وقوم نوح مبين بهم عن "الذين" و " عاد " معطوف بها على " قوم نوح " ( والذين من بعدهم ) ، يعني من بعد قوم نوح وعاد وثمود ( لا يعلمهم إلا الله ) ، يقول : لا يحصي عددهم ولا يعلم مبلغهم إلا الله ، كما : -

20590 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ميمون : ( وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله ) ، قال : كذب النسابون . [ ص: 530 ]

20591 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ميمون ، عن عبد الله بن مسعود ، بمثل ذلك .

20592 - حدثنا الحسن بن محمد قال : حدثنا شبابة قال : أخبرنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ميمون قال : حدثنا ابن مسعود ، أنه كان يقرؤها : "وعادا وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله" ثم يقول : كذب النسابون .

20593 - حدثني ابن المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عيسى بن جعفر ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ميمون ، عن عبد الله ، مثله .

وقوله : ( جاءتهم رسلهم بالبينات ) ، يقول : جاءت هؤلاء الأمم رسلهم الذين أرسلهم الله إليهم بدعائهم إلى إخلاص العبادة له بالبينات يعني بحجج ودلالات على حقيقة ما دعوهم إليه من معجزات .

وقوله : ( فردوا أيديهم في أفواههم ) ، اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك . فقال بعضهم : معنى ذلك : فعضوا على أصابعهم ، تغيظا عليهم في دعائهم إياهم إلى ما دعوهم إليه .

[ ص: 531 ] ذكر من قال ذلك :

20594 - حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى ، قالا : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله : ( فردوا أيديهم في أفواههم ) ، قال : عضوا عليها تغيظا .

20595 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا الثوري ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله ، في قوله : ( فردوا أيديهم في أفواههم ) ، قال : غيظا ، هكذا ، وعض يده .

20596 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو نعيم قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله : ( فردوا أيديهم في أفواههم ) ، قال : عضوها .

20597 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن رجاء البصري قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله في قول الله عز وجل : ( فردوا أيديهم في أفواههم ) ، قال : عضوا على أصابعهم . [ ص: 532 ]

20598 - حدثني المثنى قال : حدثنا الحماني قال : حدثنا شريك ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله : ( فردوا أيديهم في أفواههم ) ، قال : عضوا على أطراف أصابعهم .

20599 - حدثنا محمد بن المثنى قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن هبيرة ، عن عبد الله أنه قال في هذه الآية : ( فردوا أيديهم في أفواههم ) ، قال : أن يجعل إصبعه في فيه .

20600 - حدثنا الحسن بن محمد ، قال حدثنا أبو قطن قال : حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن هبيرة ، عن عبد الله في قول الله عز وجل : ( فردوا أيديهم في أفواههم ) ، ووضع شعبة أطراف أنامله اليسرى على فيه .

20601 - حدثنا الحسن قال : حدثنا يحيى بن عباد قال : حدثنا شعبة قال : أخبرنا أبو إسحاق ، عن هبيرة قال : قال عبد الله ( فردوا أيديهم في أفواههم ) ، قال : هكذا ، وأدخل أصابعه في فيه .

20602 - حدثنا الحسن قال : حدثنا عفان قال : حدثنا شعبة ، قال أبو إسحاق : أنبأنا عن هبيرة ، عن عبد الله أنه قال في هذه الآية : ( فردوا أيديهم في أفواههم ) ، قال أبو علي : وأرانا عفان ، وأدخل أطراف أصابع كفه مبسوطة في فيه ، وذكر أن شعبة أراه كذلك .

[ ص: 533 ] 20603 - حدثنا أحمد قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا سفيان وإسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله : ( فردوا أيديهم في أفواههم ) ، قال : عضوا على أناملهم . وقال سفيان : عضوا غيظا .

20604 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( فردوا أيديهم في أفواههم ) ، فقرأ : " عضوا عليكم الأنامل من الغيظ " [ سورة آل عمران : 119 ] ، قال : هذا ، ( ردوا أيديهم في أفواههم ) . قال : أدخلوا أصابعهم في أفواههم . وقال : إذا اغتاظ الإنسان عض يده .

وقال آخرون : بل معنى ذلك أنهم لما سمعوا كتاب الله عجبوا منه ، ووضعوا أيديهم على أفواههم .

ذكر من قال ذلك :

20605 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ( فردوا أيديهم في أفواههم ) ، قال : لما سمعوا كتاب الله عجبوا ورجعوا بأيديهم إلى أفواههم .

وقال آخرون : بل معنى ذلك أنهم كذبوهم بأفواههم .

ذكر من قال ذلك :

20606 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا [ ص: 534 ] عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ح وحدثني الحارث قال : حدثنا الحسن قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : ( فردوا أيديهم في أفواههم ) ، قال : ردوا عليهم قولهم وكذبوهم .

20607 - حدثنا الحسن بن محمد قال : حدثنا شبابة قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

20608 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .

20609 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم ) ، يقول : قومهم كذبوا رسلهم وردوا عليهم ما جاءوا به من البينات ، وردوا عليهم بأفواههم ، وقالوا : إنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب .

20610 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : ( فردوا أيديهم في أفواههم ) ، قال : ردوا على الرسل ما جاءت به .

قال أبو جعفر : وكأن مجاهدا وجه قوله : ( فردوا أيديهم في أفواههم ) ، إلى معنى : ردوا أيادي الله التي لو قبلوها كانت أيادي ونعما عندهم ، فلم يقبلوها ووجه قوله : ( في أفواههم ) ، إلى معنى : بأفواههم ، يعني : بألسنتهم التي في أفواههم .

وقد ذكر عن بعض العرب سماعا : "أدخلك الله بالجنة" يعنون : في الجنة ، وينشد هذا البيت

[ ص: 535 ]

وأرغب فيها عن لقيط ورهطه ولكنني عن سنبس لست أرغب

يريد : وأرغب بها ، يعني بابنة له ، عن لقيط ، ولا أرغب بها عن قبيلتي .

وقال آخرون : بل معنى ذلك أنهم كانوا يضعون أيديهم على أفواه الرسل ردا عليهم قولهم ، وتكذيبا لهم .

وقال آخرون : هذا مثل ، وإنما أريد أنهم كفوا عما أمروا بقوله من الحق ، ولم يؤمنوا به ولم يسلموا . وقال : يقال للرجل إذا أمسك عن الجواب فلم يجب : "رد يده في فمه" . وذكر بعضهم أن العرب تقول : "كلمت فلانا في حاجة فرد يده في فيه" إذا سكت عنه فلم يجب .

قال أبو جعفر : وهذا أيضا قول لا وجه له؛ لأن الله عز ذكره ، قد أخبر عنهم أنهم قالوا : " إنا كفرنا بما أرسلتم به " فقد أجابوا بالتكذيب .

قال أبو جعفر :

وأشبه هذه الأقوال عندي بالصواب في تأويل هذه الآية ، القول الذي ذكرناه عن عبد الله بن مسعود : أنهم ردوا أيديهم في أفواههم ، [ ص: 536 ] فعضوا عليها ، غيظا على الرسل ، كما وصف الله جل وعز به إخوانهم من المنافقين ، فقال : ( وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ ) [ سورة آل عمران : 119 ] . فهذا هو الكلام المعروف والمعنى المفهوم من "رد اليد إلى الفم" .

وقوله : ( وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به ) ، يقول عز وجل : وقالوا لرسلهم : إنا كفرنا بما أرسلكم به من أرسلكم ، من الدعاء إلى ترك عبادة الأوثان والأصنام ( وإنا لفي شك ) من حقيقة ما تدعوننا إليه من توحيد الله ( مريب ) ، يقول : يريبنا ذلك الشك ، أي يوجب لنا الريبة والتهمة فيه .

يقال منه : "أراب الرجل" إذا أتى بريبة ، "يريب إرابة" .

التالي السابق


الخدمات العلمية