الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                وسئل عمن يحفظ القرآن : أيما أفضل له تلاوة القرآن مع أمن النسيان ؟ أو التسبيح وما عداه من الاستغفار والأذكار في سائر الأوقات ؟ مع علمه بما ورد في " الباقيات الصالحات " و " التهليل " و " لا حول ولا قوة إلا بالله " و " سيد الاستغفار " " وسبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم " .

                التالي السابق


                فأجاب : الحمد لله . جواب هذه المسألة ونحوها مبني على أصلين : فالأصل الأول أن جنس تلاوة القرآن أفضل من جنس الأذكار كما أن جنس الذكر أفضل من جنس الدعاء كما في الحديث الذي في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { أفضل الكلام بعد القرآن أربع وهن من القرآن سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر } [ ص: 57 ] وفي الترمذي عن أبي سعيد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : { من شغله قراءة القرآن عن ذكري ومسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين } " وكما في الحديث الذي في السنن في الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم { فقال : إني لا أستطيع أن آخذ شيئا من القرآن فعلمني ما يجزئني في صلاتي . قال : قل : سبحان الله ولا إله إلا الله والله أكبر } ولهذا كانت القراءة في الصلاة واجبة فإن الأئمة لا تعدل عنها إلى الذكر إلا عند العجز . والبدل دون المبدل منه .

                وأيضا : فالقراءة تشترط لها الطهارة الكبرى دون الذكر والدعاء وما لم يشرع إلا على الحال الأكمل فهو أفضل كما أن الصلاة لما اشترط لها الطهارتان كانت أفضل من مجرد القراءة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم { استقيموا ولن تحصوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة } ولهذا نص العلماء على أن أفضل تطوع البدن الصلاة .

                وأيضا فما يكتب فيه القرآن لا يمسه إلا طاهر . وقد حكي إجماع العلماء على أن القراءة أفضل ; لكن طائفة من الشيوخ رجحوا الذكر . ومنهم من زعم أنه أرجح في حق المنتهى المجتهد كما ذكر ذلك أبو حامد في كتبه ومنهم من قال : هو أرجح في حق المبتدئ السالك وهذا أقرب إلى الصواب .

                [ ص: 58 ] وتحقيق ذلك يذكر في الأصل الثاني وهو : أن العمل المفضول قد يقترن به ما يصيره أفضل من ذلك وهو نوعان : ( أحدهما ما هو مشروع لجميع الناس .

                ( والثاني ما يختلف باختلاف أحوال الناس . أما الأول فمثل أن يقترن إما بزمان أو بمكان أو عمل يكون أفضل : مثل ما بعد الفجر والعصر ونحوهما من أوقات النهي عن الصلاة ; فإن القراءة والذكر والدعاء أفضل في هذا الزمان وكذلك الأمكنة التي نهي عن الصلاة فيها : كالحمام وأعطان الإبل والمقبرة فالذكر والدعاء فيها أفضل وكذلك الجنب : الذكر في حقه أفضل والمحدث : القراءة والذكر في حقه أفضل فإذا كره الأفضل في حال حصول مفسدة كان المفضول . هناك أفضل ; بل هو المشروع .

                وكذلك حال الركوع والسجود فإنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { نهيت أن أقرأ القرآن راكعا أو ساجدا أما الركوع فعظموا فيه الرب وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم } . وقد اتفق العلماء على كراهة القراءة في الركوع والسجود وتنازعوا في بطلان الصلاة بذلك على قولين هما وجهان في مذهب الإمام أحمد وذلك تشريفا للقرآن وتعظيما له أن لا يقرأ [ ص: 59 ] في حال الخضوع والذل كما كره أن يقرأ مع الجنازة وكما كره أكثر العلماء قراءته في الحمام .

                وما بعد التشهد هو حال الدعاء المشروع بفعل النبي صلى الله عليه وسلم وأمره . والدعاء فيه أفضل ; بل هو المشروع دون القراءة والذكر وكذلك الطواف وبعرفة ومزدلفة وعند رمي الجمار : المشروع هناك هو الذكر والدعاء . وقد تنازع العلماء في القراءة في الطواف هل تكره أم لا تكره ؟ على قولين مشهورين .

                ( والنوع الثاني أن يكون العبد عاجزا عن العمل الأفضل ; إما عاجزا عن أصله كمن لا يحفظ القرآن ولا يستطيع حفظه كالأعرابي الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم أو عاجزا عن فعله على وجه الكمال مع قدرته على فعل المفضول على وجه الكمال . ومن هنا قال من قال : إن الذكر أفضل من القرآن ; فإن الواحد من هؤلاء قد يخبر عن حاله وأكثر السالكين بل العارفين منهم إنما يخبر أحدهم عما ذاقه ووجده لا يذكر أمرا عاما للخلق ; إذ المعرفة تقتضي أمورا معينة جزئية والعلم يتناول أمرا عاما كليا فالواحد من هؤلاء يجد في الذكر من اجتماع قلبه وقوة إيمانه واندفاع الوسواس عنه ومزيد السكينة والنور والهدى : ما لا يجده في قراءة القرآن ; بل إذا قرأ القرآن لا يفهمه أو لا يحضر قلبه وفهمه ويلعب عليه الوسواس [ ص: 60 ] والفكر كما أن من الناس من يجتمع قلبه في قراءة القرآن وفهمه وتدبره ما لا يجتمع في الصلاة ; بل يكون في الصلاة بخلاف ذلك وليس كل ما كان أفضل يشرع لكل أحد بل كل واحد يشرع له أن يفعل ما هو أفضل له .

                فمن الناس من تكون الصدقة أفضل له من الصيام وبالعكس وإن كان جنس الصدقة أفضل . ومن الناس من يكون الحج أفضل له من الجهاد كالنساء وكمن يعجز عن الجهاد وإن كان جنس الجهاد أفضل . قال النبي صلى الله عليه وسلم { الحج جهاد كل ضعيف } ونظائر هذا متعددة .

                إذا عرف هذان الأصلان : عرف بهما جواب هذه المسائل . إذا عرف هذا فيقال : الأذكار المشروعة في أوقات معينة مثل ما يقال عند جواب المؤذن هو أفضل من القراءة في تلك الحال وكذلك ما سنه النبي صلى الله عليه وسلم فيما يقال عند الصباح والمساء وإتيان المضجع : هو مقدم على غيره . وأما إذا قام من الليل فالقراءة له أفضل إن أطاقها وإلا فليعمل ما يطيق والصلاة أفضل منهما ولهذا نقلهم عند نسخ وجوب قيام الليل إلى القراءة فقال : { إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك والله يقدر الليل والنهار علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرءوا ما تيسر من القرآن } الآية والله أعلم .




                الخدمات العلمية