الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل: وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفورا رحيما .

الربيبة: بنت امرأة الرجل من غيره، سميت بذلك لأنه يربيها في حجره فهي مربوبته. وربيبة: فعيلة بمعنى مفعولة، وقوله تعالى: اللاتي في حجوركم ذكر الأغلب في هذه الأمور، إذ هي حالة الربيبة في الأكثر، وهي محرمة وإن كانت في غير الحجر، لأنها في حكم أنها في الحجر، إلا ما روي عن علي أنه قال: تحل إذا لم تكن في الحجر وإن دخل بالأم، إذا كانت بعيدة عنه، ويقال: حجر بكسر الحاء وفتحها، وهو مقدم ثوب الإنسان وما بين يديه منه في حالة اللبس، ثم استعملت اللفظة في [ ص: 509 ] الحفظ والستر، لأن اللابس إنما تحفظ طفلا وما أشبهه بذلك الموضع من الثوب.

واختلف العلماء في معنى قوله: دخلتم بهن فقال ابن عباس وطاوس وابن دينار: الدخول في هذا الموضع: الجماع، فإن طلق الرجل بعد البناء وقبل الوطء فإن ابنتها له حلال. وقال جمهور من العلماء منهم مالك بن أنس وعطاء بن أبي رباح وغيرهم: إن التجريد والتقبيل والمضاجعة وجميع أنواع التلذذ يحرم الابنة كما يحرمها الوطء; والحلائل: جمع حليلة، وهي الزوجة، لأنها تحل مع الرجل حيث حل، فهي فعيلة بمعنى فاعلة. وذهب الزجاج وقوم إلى أنها من لفظة الحلال، فهي حليلة بمعنى محللة. وقوله: الذين من أصلابكم تخصيص ليخرج عنه كل من كانت العرب تتبناه ممن ليس للصلب، وكان عندهم أمرا كثيرا قوي الحكم.

قال عطاء بن أبي رباح: يتحدث والله أعلم أنها نزلت في محمد عليه السلام حين تزوج امرأة زيد بن حارثة، فقال المشركون: قد تزوج امرأة ابنه، فنزلت الآية.

وحرمت حليلة الابن من الرضاع وإن لم يكن للصلب; بالإجماع المستند إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب" وقوله تعالى: وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف لفظ يعم الجمع بنكاح وبملك يمين، وأجمعت الأمة على منع جمعهما بنكاح، وأما بملك يمين، فقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: أحلتهما آية، وحرمتهما آية. فأما أنا في خاصة نفسي فلا أرى الجمع بينهما حسنا. وروي نحو هذا عن ابن عباس، ذكره ابن المنذر، وذكر أن إسحاق بن راهويه حرم الجمع بينهما بالوطء، وأن جمهور أهل العلم كرهوا ذلك، وجعل مالكا فيمن كرهه.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

ولا خلاف في جواز جمعهما في الملك، وكذلك الأم وبنتها، ويجيء من قول إسحاق أن يرجم الجامع بينهما بالوطء، وتستقرأ الكراهية من قول مالك: إنه إذا وطئ واحدة ثم وطئ أخرى; وقف عنهما حتى يحرم إحداهما، فلم يلزمه حدا.

واختلف العلماء بعد القول بالمنع من الجمع بينهما بالوطء، إذا كان يطأ واحدة ثم [ ص: 510 ] أراد أن يطأ الأخرى; فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن عمر والحسن البصري والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق: لا يجوز له وطء الثانية حتى يحرم فرج الأخرى بإخراجها من ملكه، ببيع أو عتق أو بأن يزوجها. قال ابن المنذر: وفيها قول ثان لقتادة، وهو أنه إن كان يطأ واحدة وأراد وطء الأخرى فإنه ينوي تحريم الأولى على نفسه وألا يقربها، ثم يمسك عنها حتى يستبرئ الأولى المحرمة، ثم يغشى الثانية.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

ومذهب مالك رحمه الله: إذا كان أختان عند رجل يملك، فله أن يطأ أيتهما شاء، والكف عن الأخرى موكول إلى أمانته، فإن أراد وطء الأخرى فيلزمه أن يحرم على نفسه فرج الأولى بفعل يفعله، من إخراج عن الملك أو تزويج أو عتق إلى أجل أو إخدام طويل، فإن كان يطأ إحداهما ثم وثب على الأخرى دون أن يحرم الأولى وقف عنهما ولم يجز له قرب إحداهما حتى يحرم الأخرى، ولم يبق ذلك إلى أمانته، لأنه متهم فيمن قد وطئ، ولم يكن قبل متهما إذ كان لم يطأ إلا الواحدة. وإن كانت عند رجل أمة يطؤها ثم تزوج أختها، ففيها في المذهب ثلاثة أقوال: في النكاح الثالث من المدونة أنه يوقف عنهما إذا وقع عقد النكاح حتى يحرم إحداهما مع كراهيته لهذا النكاح، إذ هو عقد في موضع لا يجوز فيه الوطء، وذلك مكروه إلا في الحيض، لأنه أمر غالب كثير، وفي الباب بعينه قول آخر: إن النكاح لا ينعقد. وقال أشهب في كتاب الاستبراء: عقد النكاح في الواحدة تحريم لفرج المملوكة; وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها، وأجمعت الأمة على ذلك; وقد رأى بعض العلماء أن هذا الحديث ناسخ لعموم قوله تعالى: وأحل لكم ما وراء ذلكم وذلك الحديث من المتواتر، وكذلك قوله عليه السلام: "يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب" قيل أيضا: إنه ناسخ.

وقوله تعالى: إلا ما قد سلف استثناء منقطع، معناه: لكن ما قد سلف من ذلك ووقع وأزاله الإسلام فإن الله يغفره، والإسلام يجبه.

التالي السابق


الخدمات العلمية