الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله تعالى: لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان عقيب نهيه عن تحريم ما أحله الله تعالى. قال ابن عباس : لما حرموا الطيبات من المأكل، حلفوا على ذلك، فأنزل الله تعالى هذه الآية وأبان أن الحلف لا يحرم شيئا، وهو دليل [ ص: 89 ] الشافعي على أن التحريم لا يتعلق به تحريم الحلال، وأن تحريم الحلال لغو، كما أن تحليل الحرام لغو، كما لو قال: استحللت شرب الخمر، فمقتضى الآية على هذا القول أن الله تعالى جعل تحريم الحلال لغوا في أنه لا يحرم فقال: لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم . أي: تحريم الحلال فيما اشتملت عليه أيمانكم، ولكن لما سبق منكم من عقد اليمين، فأنتم مؤاخذون بما عقدتم من الأيمان، وتلك المؤاخذة كفارة إطعام مساكين، فهذا معنى الآية وهو صحيح . فاللغو على هذا هو الذي لا يعتد به وهو تحريم الحلال.

وقال عطاء وقد سئل عن اللغو في اليمين فقال: قالت عائشة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "هو كلام الرجل في بيته كلا والله وبلى والله" . وروى إبراهيم عن الأسود وهشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: لغو اليمين لا والله، بلى والله، موقوفا عليها، فعلى تفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الأصل، وعلى ما روي عن عائشة، معنى قوله: لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ، تقديره: من أيمانكم، فكأن الأيمان منقسمة إلى ما يتعلق به مؤاخذة، وإلى ما لا يتعلق به مؤاخذة في معنى الكفارة، وهذا مذهب الشافعي في الأيمان المستقبلة. وأبو حنيفة يرى تعليق الكفارة بالأيمان المستقبلة كلها، فمعنى قوله [ ص: 90 ] تعالى: لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم يعني: المؤاخذة في الأيمان على ما مضى، وإثبات المؤاخذة في الأيمان المستقبلة، غير أن الله تعالى قال في موضع آخر: لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم ، فأثبت المؤاخذة بما كسبت قلوبنا، وجعل اللغو يقتضي أن المكتسب بالقلب هو الذي يجرد القصد إليه، والماضي العمومي لا كفارة فيه عندهم، فاليمين عندهم منقسمة إلى الماضي والمستقبل، والمؤاخذة من حيث الاسم ثابتة في الماضي والمستقبل في بعض المواقع، فعلى هذا يقولون: اللغو المذكور في هذه الصورة أن يحلف على الماضي وهو غير المعقود عليه، ونقيضه المعقود عليه، وهو ما يعزم على فعله، وإنما يعرف عزمه بقوله: لأفعلن ولا أفعل، وفي الماضي لا يتصور عقد العزم على شيء. واللغو المذكور في سورة البقرة أن يحلف على الماضي ظانا أنه كذلك، ثم يتبين غلطه، فهذا لا إثم عليه فيه. وضده أن يحلف عامدا، فهو غموس تتعلق المؤاخذة به في الآخرة، فهذا معنى هذه الآية عندهم.

وقال بعض أهل العلم: اللغو أن يحلف على معصية أن يفعلها، فينبغي له ألا يفعلها ولا كفارة فيه، وروي فيه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليتركها فإن تركها كفارتها" . [ ص: 91 ] ولا شك أن الذي رآه الشافعي أولى، فإن الله تعالى ذكر اللغو في معرض إبراز العذر له، وجعل الكفارة في المعقود، والعقد ربط القلب بشيء وتجديد القصد إليه، فإذا كان كذلك; فينبغي أن يكون من يسقط الكفارة عنه إنما يسقط تسبب نسيه أن يكون عذرا، تسقط به المؤاخذة في الدنيا والآخرة جميعا، وفي الغموس لا عذر لصاحبه، وإن سقطت الكفارة فليس لأن الغموس تقتضي التخفيف وترك المؤاخذة بل تقتضي ضد ذلك. والذي حملهم على ذلك قوله تعالى: واحفظوا أيمانكم فذكروا أن حفظ اليمين إنما يتصور في المستقبل، وهذا غلط، فإنه ليس حفظ اليمين الامتناع من الحنث، مع أن الحنث مأمور به في كثير من المواضع، وقد قال الله تعالى: قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم . وإنما المراد به: الامتناع من اليمين، فلا يحلف ما استطاع، ويحفظ لسانه عن اليمين مطلقا، فهذا معنى حفظ اليمين. ويدل عليه أن اليمين قد يكون على فعل الغير، ولا يتأتى منه حفظ الغير ، مثل قول القائل: لا تطلع الشمس غدا، ولا تمطر السماء غدا، أو لتمطرن السماء غدا، أو ليدخلن السلطان، إلى غير ذلك مما يعقد اليمين عليه، فعلم بطلان هذا القول.

ولا شك أن الحق متميز في مسند الشافعي رحمه الله تعالى في هذه المسألة عند من تأمل فحوى الكلام الدال على نصب اللغو سببا للتخفيف ونفي المؤاخذة، تارة مطلقا في الدارين، وتارة في حكم الكفارة، ولا [ ص: 92 ] ينبغي أن يحمل على محمل يقال إنه لا كفارة فيه مع تناهي الجريمة والوزر، وتناهي المؤاخذة عند الله تعالى، واقتضاء التسبب نهاية التغليظ، فكيف يجوز إطلاق نفي المؤاخذة بلفظ اللغو المشير إلى التخفيف في الموضع الذي يقول الله تعالى: إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم . أترون هذا من الذي يحسن أن يسمى باسم اللغو، الذي يقال فيه لا مؤاخذة في مثله. وقوله: "عقدتم" قرئ بالتشديد، ومعناه: عقد القول، و"عقدتم" بالتخفيف يحتمل العزيمة والقصد إلى اللفظ، وعقد اليمين قولا، وإنما العزم فيما يؤكده الإنسان بقصده وعقده، فيظهر للناس منه تأكيد القول وإظهار تحقيقه. هذا هو معناه، ولا يتحقق ذلك في قوله: "لا والله وبلى والله" في حق من يكون عازما عليه، وإنما يجرى في تضاعيف الكلام من غير ثبت وتحقيق.

وذكر إسماعيل بن إسحاق المالكي في كتابه المترجم بأحكام القرآن في الرد على الشافعي ، ما أذكره وأسوق كلامه وأبين جهده بكلام الشافعي ، قال إسماعيل : حكي عن الشافعي أن من حلف عامدا للكذب فقال: والله لقد كان [ ص: 93 ] كذا، وما كان، أو قال: والله ما كان، وقد كان، كفر وقد أثم وأساء، حيث عقد الحلف بالله باطلا. فإن قال قائل: ما الحجة في أن يكفر وقد عقد الباطل؟ قيل: أقربهما قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه" . فقد أمره الله أن يعمد الحنث، يقول الله تعالى: ولا يأتل أولو الفضل منكم الآية، نزلت في رجل حلف لا ينفع أخاه، فأمره الله تعالى أن ينفعه. وقوله تعالى: وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا ، ثم جعل فيه الكفارة. ومن حلف وهو يرى أنه صادق، ثم وجده كاذبا، فعليه الكفارة.

قال إسماعيل: فشبهه الشافعي بما لا يشبهه لأن الذي أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي بالذي هو خير وأن يكفر، إنما أمره أن يستأنف بعد اليمين شيئا كان حلف عليه ألا يفعله، ولم يكن الرجل كاذبا حين حلف، فجعلت كفارة يمينه إذا فعل ما حلف عليه ألا يفعله ما ذكر في القرآن، والذي حلف على كذب بعد علمه، مخبر عن شيء مضى، كاذب فيه، حالف عليه، فكيف يشبه هذا بهذا؟ ثم أردف هذا: بما لا ينطلق لسان محصل بذكره: بأن الذي استشهد به أمر فيه بأن يتعمد الحنث، فلنؤمر في الماضي بمثله، وهذا جهل مفرط منه، وإنما أوتي من قبل نظره إلى صورة الكلام، من غير أن عرف مقداره، [ ص: 94 ] وليس يبين في أكثر حجاج الشافعي مقاطع الحجاج على ما يعهده الجدليون، وإنما يرمز إلى المقصود رمزا غير بان كلامه على أفهام ضعفة العقول ومنقوصي الأذهان.

ونحن نذكر تقرير قول الشافعي ، أنه رحمه الله أشار بقوله إلى أن الكفارة في المستقبل ما وجبت إلا باعتبار الخيانة، فإن الكفارة لا تكون جزاء على فعل مباح أو فعل واجب، وإنما هي جزاء على أمر مكروه منهي عنه. فإذا ثبت ذلك فمن حلف على ترك فعل مباح أو واجب في المستقبل، ثم فعل، فلا يمكن أن يقال: إن الكفارة لأجل ذلك الفعل المباح، الذي ندبه الشرع إلى فعله، وإنما تجب الكفارة لأجل ما اتصفت به اليمين من صفة الحنث، فيقال: صارت اليمين كاذبة بدل ما يقال: إن اليمين صادقة، فإذا كانت الكفارة لأجل صفة الحنث لا لأجل الفعل المباح، فوصف الحنث جناية على اليمين، وذلك في الماضي والمستقبل واحد. فقال إسماعيل في الذي شبه الشافعي به أمره: أن يستأنف بعد اليمين شيئا كان حلف فيه أن لا يفعله، والذي حلف على كذب بعد علمه، مخبر عن شيء قد مضى كاذب فيه، فلم يفهم المقصود، فجعل الفرق بينها الماضي والمستقبل، وقال: يجب أن يؤمر بالحنث فيما مضى، كما أمر به في المستقبل، وهذا كلام من لا يحل له أن يتصدر للتصنيف في الدين، فضلا عن أن يرد على الشافعي .

ثم قال: جعل الله الكفارة عن اليمين، فمن كفر فلا إثم عليه، فينبغي أن يكون هذا في قول الشافعي لا إثم عليه، فظن أن الكفارة هي التي ترفع الإثم، وقد بينا في مواضع أن التوبة هي الرافعة، وأن الكفارة تجب في [ ص: 95 ] قتل العمد والزنا في رمضان والقتل بالمثقل، وإن لم يرفع الوزر قبل التوبة بمجرد الكفارة، فاعلمه، وإنما الكفارة لأجل جبر صفة الحنث الحاصلة في الأيمان، والشافعي رحمه الله تعالى لما رأى الكفارة متعلقة بصفة الحنث الراجعة إلى اليمين، لا جرم رأى الكفارة متعلقة باليمين، ورآها سببا فيها فقال: تقديم الكفارة على الحنث جائز، لأن اليمين سبب، فلذلك قال: فكفارته ، وقال: ذلك كفارة أيمانكم .. ، وقوله: ذلك كفارة أيمانكم ، معناه: وذلك نتيجة أيمانكم، ومعقول أيمانكم، والمتعلق بها.. ولا فرق بين أن يقول: ذلك كفارة أيمانكم وبين أن يقول: "ذلك حكم أيمانكم" إذا كانت الكفارة حكما ولا حكم سواها. قوله: ذلك كفارة أيمانكم ، معناه: ذلك حكم أيمانكم، ولو قال: "ذلك حكم أيمانكم" عرف منه أن اليمين سبب، وكذلك إذا قال: "ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم" . وأبو حنيفة يقول: قوله: ذلك كفارة أيمانكم فيه إضمار الحنث ومعناه: ذلك كفارة أيمانكم إذا حنثتم، وهذا غلط منه، فإذا حنث عندهم فليست الكفارة كفارة اليمين، وإنما الكفارة كفارة الحنث في تناول المحرم، فلا تضاف الكفارة إلى اليمين عندهم أصلا، سواء حنث أو لم يحنث.

والذي يقال فيه من الإضمار صحيح، فإنه قال: فمن كان [ ص: 96 ] منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر . ومعناه: فأفطروا فإنه إذا أفطر فعدة من أيام أخر، وهاهنا لو جرى الإضمار صح، فلا يستقيم ما ذكروه، فأما بعد الحنث فلا تكون الكفارة كفارة اليمين على موجب أصلهم، وإنما يجوز أن يضاف الحكم إلى سببه، أو إلى سبب سببه، مثل القتل مضاف إلى الشرك عندنا، وعندهم هو مضاف لفظا، وإن كان متعلقا بالحرب، لأن الشرك يدعو إليه ويبعث عليه، فكان الشرك مولدا للحرب ومقتضيا له، فحسن إضافة الحكم إلى سبب السبب. فأما اليمين عندهم، فليست سبب الكفارة ولا سبب السبب، فإن اليمين تضاد الحنث وتمنع منه، والحنث نقض اليمين، فكيف يعقل إضافة الكفارة إلى اليمين، وليست هي سببا ولا سبب السبب.

والإضافة إما أن تكون بطريق الحقيقة أو بطريق المجاز، فأما الحقيقة فمثل قولنا: زكاة المال، والمجاز مثل قولهم: يقتل الكافر لكفره، وإن كان القتل عندهم للقتال، ولكن الكفر يدعو إليه، فلتكن الإضافة فيما نحن فيه جارية على أحد الوجهين، فإذا لم يوجد وجه من الارتباط لا مجازا ولا حقيقة، تطلب الإضافة من كل وجه، وهذا في غاية الوضوح.

التالي السابق


الخدمات العلمية