الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم استئناف بالشروع في المقصود من التشريع لإبطال التبني وتفصيل لما يحق أن يجريه المسلمون في شأنه .

وهذا الأمر إيجاب أبطل به ادعاء المتبني متبناه ابنا له . والمراد بالدعاء النسب .

والمراد من دعوتهم بآبائهم ترتب آثار ذلك ، وهي أنهم أبناء آبائهم لا أبناء من تبناهم .

واللام في لآبائهم لام الانتساب ، وأصلها لام الاستحقاق . يقال : فلان لفلان ، أي هو ابنه ، أي ينتسب له ، ومنه قولهم : فلان لرشدة وفلان لغية ، أي نسبه لها ، أي من نكاح أو من زنى ، وقال النابغة :

لئن

كان للقبرين قبر بجلق وقبر بصيداء الذي عند حارب

أي من أبناء صاحبي القبرين . وقال علقمة بن عبد يمدح الملك الحارث :

فلست لإنسي ولكن لملأك     تنزل من جو السماء يصوب

وفي حديث أبي قتادة ( صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاملا أمامة ابنة بنته زينب ولأبي العاص بن ربيعة ) فكانت اللام مغنية عن أن يقول وابنة

أبي العاص .

وضمير هو أقسط عائد إلى المصدر المفهوم من فعل ادعوهم لآبائهم أي الدعاء للآباء .

وجملة هو أقسط عند الله استئناف بياني كأن سائلا قال : لماذا لا ندعوهم [ ص: 262 ] للذين تبنوهم ؟ فأجيب ببيان أن ذلك القسط ؛ فاسم التفضيل مسلوب المفاضلة ، أي هو قسط كامل وغيره جور على الآباء الحق والأدعياء ، لأن فيه إضاعة أنسابهم الحق . والغرض من هذا الاستئناف تقرير ما دل عليه قوله وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل لتعلم عناية الله تعالى : بإبطال أحكام الجاهلية في التبني ، ولتطمئن نفوس المسلمين من المتبنين والأدعياء ومن يتعلق بهم بقبول هذا التشريع الذي يشق عليهم إذ ينزع منهم إلفا ألفوه .

ولهذا المعنى الدقيق فرع عليه قوله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم ، فجمع فيه تأكيدا للتشريع بعدم التساهل في بقاء ما كانوا عليه بعذر أنهم لا يعلمون آباء بعض الأدعياء ، وتأنيسا للناس أن يعتاضوا عن ذلك الانتساب المكذوب اتصالا حقا لا يفوت به ما في الانتساب القديم من الصلة ، ويتجافى به عما فيه من المفسدة فصاروا يدعون سالما متبنى أبي حذيفة : سالما مولى أبي حذيفة ، وغيره ، ولم يشذ عن ذلك إلا قول الناس للمقداد بن عمرو : المقداد بن الأسود ، نسبة للأسود بن عبد يغوث الذي كان قد تبناه في الجاهلية كما تقدم .

قال القرطبي : لما نزلت هذه الآية قال المقداد : أنا المقداد بن عمرو ، ومع ذلك بقي الإطلاق عليه ولم يسمع فيمن مضى من عصى مطلق ذلك عليه ولو كان متعمدا اهـ . وفي قول القرطبي

ولو كان متعمدا ، نظر ، إذ لا تمكن معرفة تعمد من يطلق ذلك عليه . ولعله جرى على ألسنة الناس المقداد بن الأسود فكان داخلا في قوله تعالى : وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به لأن ما جرى على الألسنة مظنة النسيان ، والمؤاخذة بالنسيان مرفوعة .

وارتفاع إخوانكم على الإخبار عن مبتدأ محذوف هو ضمير الأدعياء ، أي فهم لا يعدون أن يوصفوا بالإخوان في الإسلام إن لم يكونوا موالي أو يوصفوا بالموالي إن كانوا موالي بالحلف أو بولاية العتاقة وهذا استقراء تام . والإخبار بأنهم إخوان وموال كناية عن الإرشاد إلى دعوتهم بأحد هذين الوجهين .

والواو للتقسيم وهي بمعنى ( أو ) فتصلح لمعنى التخيير ، أي فإن لم تعلموا [ ص: 263 ] آباءهم فادعوهم إن شئتم بإخوان وإن شئتم ادعوهم موالي إن كانوا كذلك . وهذا توسعة على الناس .

و في للظرفية المجازية ، أي إخوانكم أخوة حاصلة بسبب الدين كما يجمع الظرف محتوياته ، أو تجعل في للتعليل والتسبب ، أي إخوانكم بسبب الإسلام مثل قوله تعالى : " فإذا أوذي في الله " ، أي لأجل الله لقوله تعالى : إنما المؤمنون إخوة .

وليس في دعوتهم بوصف الأخوة ريبة أو التباس مثل الدعوة بالبنوة لأن الدعوة بالأخوة في أمثالهم ظاهرة لأن لوصف الأخوة فيهم تأويلا بإرادة الاتصال الديني بخلاف وصف البنوة فإنما هو ولاء وتحالف فالحق أن يدعوا بذلك الوصف ، وفي ذلك جبر لخواطر الأدعياء ومن تبنوهم .

والمراد بالولاء في قوله " ومواليكم " ولاء المحالفة لا ولاء العتق ، فالمحالفة مثل الأخوة . وهذه الآية ناسخة لما كان جاريا بين المسلمين ومن النبيء - صلى الله عليه وسلم - من دعوة المتبنين إلى الذين تبنوهم فهو من نسخ السنة الفعلية والتقريرية بالقرآن . وذلك مراد من قال : إن هذه الآية نسخت حكم التبني . قال في الكشاف : وفي فصل هذه الجمل ووصلها من الحسن والفصاحة ما لا يغبى عن عالم بطرق النظم .

وبينه الطيبي فقال : يعني في إخلاء العاطف وإثباته من الجمل من مفتتح السورة إلى هنا . وبيانه : أن الأوامر والنهي في ( اتق - ولا تطع - واتبع - وتوكل ) ، فإن الاستهلال بقوله ( يا أيها النبيء اتق الله ) دال على أن الخطاب مشتمل على أمر معني شأنه لائح منه الإلهاب ، ومن ثم عطف عليه " ولا تطع " كما يعطف الخاص على العام ، وأردف به النهي ، ثم أمر بالتوكل تشجيعا على مخالفة أعداء الدين ، ثم عقب كلا من تلك الأوامر بما يطابقه على سبيل التتميم ، وعلل ولا تطع الكافرين بقوله إن الله كان عليما حكيما تتميما للارتداع ، وعلل قوله واتبع ما يوحى إليك بقوله إن الله كان بما تعملون خبيرا تتميما ، وذيل قوله وتوكل على الله بقوله وكفى بالله وكيلا تقريرا [ ص: 264 ] وتوكيدا على منوال : فلان ينطق بالحق والحق أبلج ، وفصل قوله ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه على سبيل الاستئناف تنبيها على بعض من أباطيلهم . وقوله ذلكم قولكم بأفواهكم فذلكة لتلك الأحوال آذنت بأنها من البطلان وحقيق بأن يذم قائله . ووصل قوله والله يقول الحق وهو يهدي السبيل على هذه الفذلكة بجامع التضاد على منوال ما سبق في المحمل في " ولا تطع " و " اتبع " ، وفصل قوله ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله ، وقوله النبي أولى بالمؤمنين ، وهلم جرا إلى آخر السورة تفصيلا لقول الحق والاهتداء إلى السبيل القويم اهـ .

التالي السابق


الخدمات العلمية