الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورا رحيما عطف على جملة ادعوهم لآبائهم لأن الأمر فيها للوجوب فهو نهي عن ضده لتحريمه كأنه قيل : ولا تدعوهم للذين تبنوهم إلا خطأ .

والجناح : الإثم ، وهو صريح في أن الأمر في قوله ادعوهم لآبائهم أمر وجوب .

ومعنى فيما أخطأتم به ما يجري على الألسنة خارجا مخرج الغالب فيما اعتادوه أن يقولوا : فلان بن فلان للدعي ومتبنيه ، ولذلك قابله بقوله ولكن ما تعمدت قلوبكم أي ما تعمدته عقائدكم بالقصد والإرادة إليه .

وبهذا تقرر إبطال حكم التبني وأن لا يقول أحد لدعيه : هو ابني ، ولا يقول : تبنيت فلانا ، ولو قاله أحد لم يكن لقوله أثر ولا يعتبر وصية وإنما يعتبر قول الرجل : أنزلت فلانا منزلة ابن لي يرث ما يرثه ابني . وهذا هو المسمى بالتنزيل وهو خارج مخرج الوصية بمناب وارث إذا حمله ثلث الميت . وأما إذا قال لمن ليس بابنه : هو ابني ، على معنى الاستلحاق فيجري على حكمه إن كان المنسوب مجهول النسب ولم يكن الناسب مريدا التطلف والتقريب . وعند أبي حنيفة وأصحابه من قال : هو ابني ، وكان أصغر من القائل وكان مجهول النسب سنا ثبت [ ص: 265 ] نسبه منه ، وإن كان عبده عتق أيضا ، وإن كان لا يولد مثله لمثله لم يثبت النسب ولكنه يعتق عليه عند أبي حنيفة خلافا لصاحبيه فقالا : لا يعتق عليه .

وأما معروف النسب فلا يثبت نسبه بالقائل فإن كان عبدا يعتق عليه لأن إطلاقه ممنوع إلا من جهة النسب فلو قال لعبده : هو أخي ، لم يعتق عليه إذا قال : لم أرد به أخوة النسب لأن ذلك يطلق في أخوة الإسلام بنص الآية وإذا قال أحد لدعيه : يا بني ، على وجه التلطف فهو ملحق بالخطأ ولا ينبغي التساهل فيه إذا كانت فيه ريبة .

وقوله ادعوهم لآبائهم يعود ضمير أمره إلى الأدعياء فلا يشمل الأمر دعاء الحفدة أبناء لأنهم أبناء . وقد قال النبيء - صلى الله عليه وسلم - في الحسن - رضي الله عنه - إن ابني هذا سيد وقال : لا تزرموا ابني أي لا تقطعوا عليه بوله . وكذلك لا يشمل ما يقوله أحد لآخر غير دعي له : يا ابني ، تلطفا وتقربا ، فليس به بأس لأن المدعو بذلك لم يكن دعيا للقائل ولم يزل الناس يدعون لداتهم بالأخ أو الأخت ، قال الشاعر :

أنت أختي وأنت حرمة جاري وحرام علي خون الجوار ويدعون من هو أكبر باسم العم كثيرا ، قال النمر بن تولب :

دعاني الغواني عمهن     وخلتني لي اسم فلا أدعى به

وهو أول يريد أنهن كن يدعونه : يا أخي .

ووقوع " جناح " في سياق النفي بـ " ليس " يقتضي العموم فيفيد تعميم انتفاء الإثم عن العمل الخطأ بناء على قاعدة عدم تخصيص العام بخصوص سببه الذي ورد لأجله وهو أيضا معضود بتصرفات كثيرة في الشريعة ، منها قوله تعالى : ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ، وقول النبيء - صلى الله عليه وسلم - : رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه .

ويفهم من قوله ادعوهم لآبائهم النهي عن أن ينسب أحد إلى غير أبيه بطريق لحن الخطاب . وفي الحديث : من انتسب إلى غير أبيه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا .

[ ص: 266 ] ويخرج من النهي قول الرجل لآخر : أنت أبي وأنا ابنك على قصد التعظيم والتقريب وذلك عند انتفاء اللبس ، كقول أبي الطيب يرقق سيف الدولة :

إنما أنت والد والأب القا     طع أحنى من واصل الأولاد

وجملة إن الله كان غفورا رحيما تعليل نفي الجناح عن الخطأ بأن نفي الجناح من آثار اتصاف الله تعالى بالمغفرة والرحمة بخلقه .

التالي السابق


الخدمات العلمية