الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
[ ص: 172 ] باب دعوى الرجل رق الغلام في يده ( قال ) رضي الله عنه غلام صغير لا ينطق في يد رجل فقال هذا عبدي فهو كما قال إذا لم يعرف خلافه لأنه لا يد له في نفسه ولا قول فيتقرر قول ذي اليد عليه وما في يده مملوك له باعتبار الظاهر فإذا ادعى ما يشهد له الظاهر به كان القول فيه قوله كما لو كان في يده دابة أو ثوب فقال هذا لي .

( قال ) وإن أدرك الصغير فقال أنا حر الأصل فعليه البينة لأنه يدعي إبطال ملك ثبت عليه لذي اليد بدليل شرعي فلا يقبل ذلك منه إلا بحجة .

( قال ) وإن كان حين ادعاه الذي في يده يعبر عن نفسه فقال أنا حر فالقول قوله لأنه في يد نفسه وله قول معتبر شرعا فلا تتقرر عليه يد ذي اليد مع ذلك بل يد نفسه تكون دافعة ليد ذي اليد لأنها أقرب إليه فكان القول قوله في حريته لتمسكه بما هو الأصل ، وكذلك لو قال الغلام أنا لقيط لأن اللقيط حر باعتبار الأصل والدار فهو كقوله أنا حر فإن أقام الذي في يده البينة أنه عبده وأقام الغلام البينة أنه حر أخذت بينة الغلام لأنه يثبت حرية الأصل ببينته ، وبينة الملك لا تعارض بينة الحرية من وجهين ( أحدهما ) أن الحرية لا تحتمل النقض والفسخ والملك يحتمل الإبطال ( والثاني ) أن الإثبات في بينة الحرية أكثر لأنه يتعلق بالحرية أحكام متعدية إلى الناس كافة ولأن في بينته ما يدفع بينة ذي اليد وليس في بينة ذي اليد ما يدفع بينته فإن الحرية تتحقق بعد الملك وإن قال الذي في يده هذا عبدي وقال الغلام أنا عبد فلان فهو عبد الذي في يديه ; لأنه لما أقر بالرق على نفسه لم يبق له يد ولا قول معتبر في نفسه بل تتقرر يد ذي اليد عليه فالقول قوله أنه ملكه بخلاف الأول فإن هناك هو ينكر رقه أصلا .

وقوله في دفع الرق عن نفسه مقبول وفي تعيين مالكه غير مقبول ; لأنه يحول به ملكا ثابتا لذي اليد إلى غيره ، وكذلك لو كان في يدي رجلين يدعي كل واحد منهما أنه له فقال هو : أنا عبد أحدهما ; لأنه لما أقر بالرق على نفسه تقررت يدهما عليه وإن كان لا ينطق فأقام أحدهما البينة أنه عبده وأقام الآخر البينة أنه ابنه من أم ولده قضي به للذي ادعاه ; لأن في بينته زيادة إثبات النسب والحرية للولد فتترجح بذلك ، فإن أقام كل واحد منهما البينة أنه عبده ولد عبده ووقتت إحدى البينتين وقتا قبل وقت الأخرى قضي به للأول إذا كان بذلك الميلاد .

معناه إذا كان سن الغلام موافقا للوقت الأول فقد ظهر علامة الصدق في شهادة [ ص: 173 ] شهوده وعلامة الكذب في شهادة شهود الآخر وإن علم أنه على غير ذلك الميلاد قضي به للآخر ; لأن علامة الكذب ظهرت في شهادة أسبق التاريخين وذلك مانع من العمل بها فإن كان يشك فيه قضي به بينهما لاستواء الحجتين فإن كان كل واحد منهما أثبت الملك لنفسه من حين ولد ; لأن الملك لا يسبق الولادة ولا يعتبر سبق التاريخ مع ذلك ولكن لما كان كل واحد من الأمرين محتملا قضي به بينهما وقيل هذا قولهما .

فأما عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى ينبغي أن يقضي لصاحب الوقت الأول ; لأنهما استويا في معنى الاحتمال وصاحب أسبق التاريخين أثبت الملك لنفسه في وقت لا ينازعه فيه أحد فيجب القضاء بالملك له ثم لا يستحق عليه بعد ذلك إلا بسبب من جهته ، وإن لم توقت واحدة منهما وقتا غير إحدى البينتين شهدت أن هذا المولى أعتق أمه قبل أن تلده أو دبرها أو أعتق الغلام وأمه حامل به أو دبره قضي به لصاحب العتق ; لأنه في بينته زيادة إثبات الحرية للغلام إما مقصودا أو تبعا لأمه ولأن العتق قبض من المعتق فبإثباته العتق أو التدبير يثبت أن اليد له وبينة ذي اليد تترجح في إثبات الملك من وقت الولادة ألا ترى أنه لو كان في يد غيرهما فأقام كل واحد منهما البينة أنه عبده غير أن إحدى البينتين شهدوا أنه دبره أو أعتقه ألبتة يقضى به له ; لأنه بالتدبير والعتق يستحق الولاء ، والولاء كالنسب ولو كان في إحدى البينتين زيادة إثبات النسب ترجحت بذلك فكذلك الولاء .

التالي السابق


الخدمات العلمية