الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 5 ] بسم الله الرحمن الرحيم

                                                                                                                                                                                                                                      72- سورة الجن .

                                                                                                                                                                                                                                      مكية وآياتها ثمان وعشرون .

                                                                                                                                                                                                                                      مقدمة السورة .

                                                                                                                                                                                                                                      أخرج ابن الضريس والنحاس، وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال : نزلت سورة الجن بمكة .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت : نزلت سورة قل أوحي بمكة .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : قل أوحي إلي أخرج أحمد، وعبد بن حميد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن المنذر والحاكم والطبراني ، وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي معا في الدلائل عن ابن عباس قال : انطلق النبي صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسلت عليهم الشهب فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا : ما لكم فقالوا : حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب فقالوا : ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فانظروا ما هذا [ ص: 6 ] الذي حال بينكم وبين خبر السماء فانصرف أولئك الذين ذهبوا نحو تهامة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بنخلة، عامدين إلى سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر فلما سمعوا القرآن استمعوا له فقالوا : هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء فهناك حين رجعوا إلى قومهم فقالوا : يا قومنا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا فأنزل الله على نبيه قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن وإنما أوحى إليه قول الجن .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن المنذر عن عبد الملك قال : لم تحرس الجن في الفترة بين عيسى ومحمد فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم حرست السماء الدنيا ورميت الجن بالشهاب فاجتمعت إلى إبليس فقال : لقد حدث في الأرض حدث فعرفوا فأخبرونا ما هذا الحدث فبعث هؤلاء النفر إلى تهامة وإلى جانب اليمن وهم أشراف الجن وسادتهم فوجدوا النبي صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة الغداة بنخلة فسمعوه يتلو القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضى يعني بذلك أنه فرغ من صلاة الصبح ولوا إلى قومهم [ ص: 7 ] منذرين مؤمنين لم يشعر بهم حتى نزل قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن يقال : سبعة من أهل نصيبين .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن الجوزي في كتاب صفوة الصفوة بسنده عن سهل بن عبد الله قال : كنت في ناحية ديار عاد إذ رأيت مدينة من حجر منقورة في وسطها قصر من حجارة تأويه الجن فدخلت فإذا شيخ عظيم الخلق يصلي نحو الكعبة وعليه جبة صوف فيها طراوة فلم أتعجب من عظم خلقته كتعجبي من طراوة جبته فسلمت عليه فرد علي السلام وقال : يا سهل إن الأبدان لا تخلق الثياب وإنما تخلقها روائح الذنوب ومطاعم السحت وإن هذه الجبة علي منذ سبعمائة سنة لقيت بها عيسى ومحمدا عليهما السلام فآمنت بهما فقلت له : ومن أنت قال : أنا من الذين نزلت فيهم قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن قال : كانوا من جن نصيبين .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن مسعود في قوله : قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن قال : كانوا من جن نصيبين .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : تعالى جد ربنا قال : آلاؤه وعظمته .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 8 ] وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى : وأنه تعالى جد ربنا قال : أمره وقدرته .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج الطستي في مسائله عن ابن عباس أن نافع بن الأزرق سأله عن قوله : تعالى جد ربنا قال : عظمة ربنا، قال : وهل تعرف العرب ذلك قال : نعم، أما سمعت قول أمية بن أبي الصلت :

                                                                                                                                                                                                                                      لك الحمد والنعماء والملك ربنا ولا شيء أعلى منك جدا وأمجدا .



                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد عن ابن عباس قال : لو علمت الجن أنه يكون في الإنس جد ما قالوا تعالى جد ربنا .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد عن الحسن في قوله : جد ربنا قال : غنى [ ص: 9 ] ربنا .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد عن قتادة في قوله : جد ربنا قال : تعالى أمر ربنا، تعالت عظمته .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة في قوله : تعالى جد ربنا قال : جلال ربنا .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : وأنه تعالى جد ربنا قال : ذكره وفي قوله : وأنه كان يقول سفيهنا قال : هو إبليس .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن مردويه والديلمي بسند واه عن أبي موسى الأشعري مرفوعا وأنه كان يقول سفيهنا قال : إبليس .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد عن عثمان بن حاضر مثله .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد عن قتادة وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا قال : عصاه سفيه الجن كما عصاه سفيه الإنس .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد عن علقمة أنه كان يقرأ التي في الجن والتي في [ ص: 10 ] النجم وأنا وأنه بالنصب .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم والعقيلي في الضعفاء والطبراني وأبو الشيخ في العظمة، وابن عساكر عن كردم بن أبي السائب الأنصاري قال : خرجت مع أبي إلى المدينة في حاجة وذلك أول ما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فآوانا المبيت إلى راعي غنم فلما انتصف الليل جاء ذئب فأخذ حملا من الغنم فوثب الراعي فقال : يا عامر الوادي أنا جارك، فنادى مناد لا نراه يا سرحان أرسله فأتى الحمل يشتد حتى دخل في الغنم وأنزل الله على رسوله بمكة وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 11 ] وأخرج ابن سعد عن أبي رجاء العطاردي من بني تميم قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رعيت على أهلي وكفيت مهنتهم فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم خرجنا هرابا فأتينا على فلاة من الأرض وكنا إذا أمسينا بمثلها قال شيخنا : إنا نعوذ بعزيز هذا الوادي من الجن الليلة فقلنا ذاك فقيل لنا : إنما سبيل هذا الرجل شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فمن أقر بها أمن على دمه وماله فرجعنا فدخلنا في الإسلام قال أبو رجاء : إني لأرى هذه الآية نزلت في وفي أصحابي وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أبو نصر السجزي في الإبانة من طريق مجاهد عن ابن عباس أن رجلا من بني تميم كان جريئا على الليل والرمال وأنه سار ليلة فنزل في أرض مجنة فاستوحش فعقل راحلته ثم توسد ذراعيها وقال : أعوذ بسيد هذا الوادي من شر أهله فأجاره شيخ منهم وكان منهم شاب وكان سيدا في الجن فغضب الشاب لما أجاره الشيخ فأخذ حربة له قد سقاها السم لينحر ناقة الرجل بها فتلقاه الشيخ دون الناقة فقال : [ ص: 12 ] [ ]

                                                                                                                                                                                                                                      يا مالك بن مهلهل بن إيار     مهلا فدى لك محجري وإزاري
                                                                                                                                                                                                                                      عن ناقة الإنسان لا تعرض لها     واختر إذا ورد المها أثواريأني
                                                                                                                                                                                                                                      ضمنت له سلامة رحله     فاكفف يمينك راشدا عن جاري
                                                                                                                                                                                                                                      ولقد أتيت إلي ما لم أحتسب     ألا رعيت قرابتي وجواري
                                                                                                                                                                                                                                      تسعى إليه بحربة مسمومة     أف لقربك يا أبا اليقظاري
                                                                                                                                                                                                                                      لولا الحياء وأن أهلك جيرة     لتمزقتك بقوة أظفاري

                                                                                                                                                                                                                                      فقال له الفتى :

                                                                                                                                                                                                                                      أردت أن تعلو وتخفض ذكرنا     في غير مرزية أبا العيزاري
                                                                                                                                                                                                                                      متنحلا أمرا لغير فضيلة     فارحل فإن المجد للمراري
                                                                                                                                                                                                                                      من كان منكم سيدا فيما مضى     إن الخيار هم بنو الأخيار
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 13 ] فاقصد لقصدك يا معيكر إنما     كان المجير مهلهل بن وبار

                                                                                                                                                                                                                                      فقال الشيخ : صدقت كان أبوك سيدنا وأفضلنا دع عنك هذا الرجل لا أنازعك بعده أحدا فتركه فأتى الرجل النبي صلى الله عليه وسلم فقص عليه القصة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا أصاب أحدا منكم وحشة أو نزل بأرض مجنة فليقل : أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها ومن فتن الليل ومن طوارق النهار إلا طارقا يطرق بخير . فأنزل الله في ذلك وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا
                                                                                                                                                                                                                                      قال أبو نصر : غريب جدا لم نكتبه إلا من هذا الوجه .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج الخرائطي في كتاب الهواتف عن سعيد بن جبير أن رجلا من بني تميم يقال له : رافع بن عمير حدث عن بدء إسلامه قال : إني لأسير برمل عالج ذات ليلة إذ غلبني النوم فنزلت عن راحلتي وأنختها ونمت وقد تعوذت قبل نومي فقلت : أعوذ بعظيم هذا الوادي من الجن فرأيت رجلا في منامي بيده حربة يريد أن يضعها في نحر ناقتي فانتبهت فزعا فنظرت يمينا وشمالا فلم أر شيئا فقلت : هذا حلم، ثم عدت فغفوت فرأيت مثل ذلك فانتبهت [ ص: 14 ] فنظرت حول ناقتي فلم أر شيئا فإذا ناقتي ترعد، ثم غفوت فرأيت مثل ذلك فانتبهت فرأيت ناقتي تضطرب والتفت فإذا أنا برجل شاب كالذي رأيته في المنام بيده حربة ورجل شيخ ممسك بيده يرده عنها فبينما هما يتنازعان إذ طلعت ثلاثة أثوار من الوحش فقال الشيخ للفتى : قم فخذ أيها شئت فداء لناقة جاري الإنسي، فقام الفتى فأخذ منها ثورا ثم التفت إلى الشيخ وقال : يا هذا إذا نزلت واديا من الأودية فخفت هوله فقل : أعوذ بالله رب محمد من هول هذا الوادي ولا تعذ بأحد من الجن فقد بطل أمرها، فقلت له : ومن محمد هذا؟ قال : نبي عربي لا شرقي ولا غربي بعث يوم الاثنين، قلت : فأين مسكنه؟ قال : يثرب ذات النخل، فركبت راحلتي حين برق الصبح وجددت السير حتى أتيت المدينة فرآني رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدثني بحديثي قبل أن أذكر له منه شيئا ودعاني إلى الإسلام فأسلمت، قال سعيد بن جبير : وكنا نرى أنه هو الذي أنزل الله فيه وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : وأنه كان رجال [ ص: 15 ] من الإنس يعوذون برجال من الجن قال : كان رجال من الإنس يبيت أحدهم في الجاهلية بالوادي فيقول : أعوذ بعزيز هذا الوادي فزادوهم رهقا قال : إثما .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر عن الحسن في قوله : وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن قال : كان أحدهم إذا نزل الوادي قال : أعوذ بعزيز هذا الوادي من شر سفهاء قومه فيأمن في نفسه ليلته أو يومه .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر عن مجاهد في قوله : وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن قال : كانوا يقولون إذا هبطوا واديا : نعوذ بعظيم هذا الوادي فزادوهم رهقا قال : زادوا الكفار طغيانا .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد عن قتادة في قوله : وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن قال : كانوا في الجاهلية إذا نزلوا منزلا قالوا : نعوذ بعزيز هذا المكان فزادوهم رهقا يقول : خطيئة وإثما .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد عن إبراهيم وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا قال : كان القوم إذا نزلوا واديا قالوا : نعوذ [ ص: 16 ] بسيد أهل هذا الوادي فقالوا : نحن لا نملك لنا ولا لهم ضرا ولا نفعا وهم يخافوننا فاجترءوا عليهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد عن الربيع بن أنس وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا قال : كانوا يقولون : فلان رب هذا الوادي من الجن فكان أحدهم إذا دخل ذلك الوادي يعوذ برب الوادي من دون الله فيزيده بذلك رهقا أي خوفا .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة قال : إن ناسا في الجاهلية كانوا إذا أتوا وادي الجن نادى منادي الإنس إلى خيار الجن أن احبسوا عنا سفهاءكم فلم يغنهم ما وعظوا به فزادوهم رهقا .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : كان القوم في الجاهلية إذا نزلوا بالوادي قالوا : نعوذ بسيد هذا الوادي من شر ما فيه فلا يكونون بشيء أشد ولعا منهم بهم فذلك قوله : فزادوهم رهقا .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن مردويه من طريق معاوية بن قرة عن أبيه قال : ذهبت لأسلم حين بعث الله محمدا مع رجلين أو ثلاثة في الإسلام فأتيت الماء [ ص: 17 ] حيث يجتمع الناس فإذا الناس براعي القرية الذي يرعى لهم أغنامهم فقال : لا أرعى لكم أغنامكم، قالوا : لم؟ قال : يجيء الذئب كل ليلة يأخذ شاة وصنمكم هذا راقد لا يضر ولا

                                                                                                                                                                                                                                      ينفع ولا يغير ولا ينكر فذهبوا وأنا أرجو أن يسلموا فلما أصبحنا جاء الراعي يشتد يقول : البشرى البشرى، حتى جيء بالذئب وهو مقموط بين يدي الصنم بغير قماط فذهبوا وذهبت معهم فقبلوه وسجدوا له وقالوا : هكذا فاصنع فدخلت على محمد صلى الله عليه وسلم فحدثته هذا الحديث فقال : لعب بهم الشيطان .


                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية