الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 258 ] ( فصل ) معترض : ذكرت في ورقتك أنك قلت للشيخ : في نفسي أن تطلب لي المحاضر حتى ينظر هو فيها .

                فإن كان له دافع وإلا فالجماعة كلهم معذورون ، وهذا مما لا حاجة إليه أصلا وهذه المحاضر أقل وأحقر من أن يحتاج الرد عليها إلى حضرتها فإني قد بينت - ببضع وعشرين وجها : أن هذا الحكم خارج عن شريعة الإسلام بإجماع المسلمين : المذاهب الأربعة وسائر أئمة الدين .

                وقلت للرسول : ما لابن مخلوف ونحوه في أن يتعرض إلى علم الدين الذي غيره أعلم به منه : مثل تفسير القرآن وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ومقالات السلف وأصول الدين التي لا يعرفها وهذه الأمور إنما يرجع فيها إلى من يعرفها فإن كان السلطان ، أو نائبه الحاكم يعرفها كان في ذلك كسائر العارفين بها وإلا فلا أمر لهم فيها ، كما لا يراجع في الاستفتاء إلا من يحسن الفتيا .

                وقلت له أنا لم يصدر مني قط إلا جواب مسائل ، وإفتاء مستفت مما كاتبت أحدا أبدا ولا خاطبته في شيء من هذا ، بل يجيئني الرجل المسترشد المستفتي بما أنزل الله على رسوله ، فيسألني مع بعده ، وهو محترق على طلب الهدى [ ص: 259 ] أفيسعني في ديني أن أكتمه العلم .

                وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " { من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار } " .

                وقد قال الله تعالى : { إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون } أفعلى أمرك أمتنع عن جواب المسترشد لأكون كذلك ؟ وهل يأمرني بهذا السلطان أو غيره من المسلمين ؟ .

                ولكن أنتم ما كان مقصودكم إلا دفع أمر الملك لم بلغكم من الأكاذيب فقال يا مولانا : دع أمر الملك .

                أحد ما يتكلم في الملك .

                فقلت : " إيه " الساعة ما بقي أحد يتكلم في الملك وهل قامت هذه الفتنة إلا لأجل ذلك ؟ ونحن سمعنا - بهذا - ونحن بالشام أن المثير لها تهمة الملك لكن ما اعتقدنا أن أحدا يصدق هذا .

                وذكرت له أن هذه القصة ليس ضررها علي فإني أنا من أي شيء أخاف إن قتلت كنت من أفضل الشهداء وكان ذلك سعادة في حقي : يترضى بها علي إلى يوم القيامة ويلعن الساعي في ذلك إلى يوم القيامة فإن جمع أمة محمد صلى الله عليه وسلم يعلمون أني أقتل على الحق الذي بعث الله به رسوله .

                وإن حبست فوالله إن حبسي لمن أعظم نعم الله علي وليس لي ما أخاف الناس عليه : لا مدرسة ولا إقطاع ولا مال ولا رئاسة ولا شيئا من الأشياء .

                [ ص: 260 ] ولكن هذه القصة ضررها يعود عليكم : فإن الذين سعوا فيها من الشام أنا أعلم أن قصدهم فيها كيدكم وفساد ملتكم ودولتكم .

                وقد ذهب بعضهم إلى بلاد التتر وبعضهم مقيم هناك .

                فهم الذين قصدوا فساد دينكم ودنياكم وجعلوني إماما بالتستر ، لعلمهم بأني أواليكم وأنصح لكم وأريد لكم خير الدنيا والآخرة .

                والقضية لها أسرار كلما جاءت تنكشف ، وإلا فأنا لم يكن بيني وبين أحد بمصر عداوة ولا بغض ومازلت محبا لهم ، مواليا لهم : أمرائهم ومشايخهم وقضاتهم .

                فقال لي فما الذي أقوله لنائب السلطان ؟ فقلت : سلم عليه وبلغه كل ما سمعت .

                فقال : هذا كثير .

                فقلت : ملخصه أن الذي في هذا الدرج أكثره كذب .

                وأما هذه الكلمة " استوى حقيقة " فهذه قد ذكر غير واحد من علماء الطوائف - المالكية وغير المالكية - أنه أجمع عليها أهل السنة والجماعة ، وما أنكر ذلك أحد من سلف الأمة ولا أئمتها .

                بل ما علمت عالما أنكر ذلك ، فكيف أترك ما أجمع عليه أهل السنة ولم ينكره أحد من العلماء .

                وأشرت بذلك إلى أمور : منها ما ذكره الإمام " أبو عمر الطلمنكي " وهو أحد أئمة المالكية قبل الباجي وابن عبد البر وهذه الطبقة .

                قال : وأجمع المسلمون من أهل السنة أن معنى { وهو معكم أين ما كنتم } ونحو ذلك من القرآن : أن ذلك علمه وأن الله فوق السموات بذاته مستو على عرشه كيف شاء .

                وقال [ ص: 261 ] أيضا : قال أهل السنة في قول الله { الرحمن على العرش استوى } إن الاستواء من الله على عرشه المجيد على الحقيقة لا على المجاز .

                وقال أبو عبد الله القرطبي صاحب التفسير المشهور في قوله تعالى { ثم استوى على العرش } قال : هذه " مسألة الاستواء " للعلماء فيها كلام وأجزاء ، وقد بينا أقوال العلماء فيها في كتاب " الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى " وذكرنا فيها أربعة عشر قولا .

                إلى أن قال : وقد كان السلف الأول رضي الله عنهم لا يقولون بنفي الجهة ولا ينطقون بذلك بل نطقوا هم والكافة بإثباتها لله تعالى .

                كما نطق به كتابه وأخبرت رسله .

                قال : ولم ينكر أحد من السلف الصالح أنه استوى على عرشه حقيقة .

                وخص العرش بذلك لأنه أعظم مخلوقاته ، وإنما جهلوا كيفية الاستواء : فإنه لا تعلم حقيقته .

                كما قال مالك " الاستواء معلوم " يعني في اللغة والكيف مجهول والسؤال عن هذا بدعة .

                وكذا قالت أم سلمة رضي الله عنها .

                وقال هذا الشيخ المشهور بمصر وغيرها في كتاب " شرح الأسماء " قال : وذكر الإمام أبو بكر محمد بن الحسن الحضرمي القيرواني الذي له الرسالة التي سماها " برسالة الأسماء إلى مسألة الاستواء " لما ذكر اختلاف المتأخرين في الاستواء - قول " الطبري يعني أبا جعفر صاحب التفسير الكبير وأبي محمد بن أبي زيد ، والقاضي عبد الوهاب ، وجماعة من شيوخ الحديث والفقه .

                قال : وهو ظاهر بعض كتب القاضي أبي بكر " وأبي الحسن يعني [ ص: 262 ] الأشعري وحكاه عنه يعني القاضي أبا بكر القاضي عبد الوهاب أيضا : وهو أنه سبحانه مستو على العرش بذاته .

                وأطلقوا في بعض الأماكن فوق عرشه .

                قال الإمام أبو بكر وهو الصحيح الذي أقول به ، من غير تحديد ولا تمكن في مكان ولا كون فيه ولا مماسة .

                قال الشيخ أبو عبد الله : هذا قول القاضي أبي بكر في " كتاب تمهيد الأوائل " له وقاله الأستاذ أبو بكر بن فورك في " شرح أوائل الأدلة " له . وهو قول أبي عمر بن عبد البر والطلمنكي وغيرهما من الأندلسيين ، وقول الخطابي في " شعار الدين " ثم قال بعد أن حكى أربعة عشر قولا : وأظهر الأقوال ما تظاهرت عليه الآي والأخبار والفضلاء الأخيار . إن الله على عرشه كما أخبر في كتابه وعلى لسان نبيه ، بلا كيف بائن من جميع خلقه هذا مذهب السلف الصالح فيما نقله عنهم الثقات . هذا كله لفظه .

                وقال الشيخ أبو نصر السجزي في كتاب " الإبانة " له : وأئمتنا - كسفيان الثوري ومالك بن أنس وسفيان بن عيينة وحماد بن سلمة ، وحماد بن زيد ، وعبد الله بن المبارك ، وفضيل بن عياض ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه - متفقون على أن الله سبحانه بذاته فوق العرش وأن علمه بكل مكان وأنه يرى يوم القيامة بالأبصار فوق العرش وأنه ينزل إلى سماء الدنيا وأنه يغضب ويرضى ويتكلم بما شاء .

                فمن خالف شيئا من ذلك فهو منهم بريء وهم منه براء .

                [ ص: 263 ] وقال أبو بكر بن عبد البر في " كتاب التمهيد " في شرح الموطأ - وهو أجل ما صنف في فنه : لما تكلم على حديث النزول قال : هذا حديث ثابت من جهة النقل صحيح الإسناد لا يختلف أهل الحديث في صحته وهو حديث منقول من طرق سوى هذه من أخبار العدول عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه دليل على أن الله في السماء على العرش من فوق سبع سموات كما قالت : الجماعة .

                وهو من حجتهم على المعتزلة في قولهم إن الله بكل مكان وليس على العرش .

                قال في الدليل على صحة ما قاله أهل الحق قول الله { الرحمن على العرش استوى } وقال { إليه يصعد الكلم الطيب } وقال { تعرج الملائكة والروح إليه } وقال لعيسى { إني متوفيك ورافعك إلي } وذكر آيات .

                إلى أن قال : وهذا أشهر عند العامة والخاصة من أن يحتاج إلى أكثر من حكايته ، لأنه اضطرار لم يوقفهم عليه أحد ولا خالفهم فيه مسلم وبسط الكلام في ذلك .

                إلى أن قال : وأما احتجاجهم بقوله تعالى : { ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا } فلا حجة لهم في ظاهر الآية ، لأن علماء الصحابة والتابعين - الذين حمل عنهم التأويل - قالوا في تأويل هذه الآية : هو على العرش وعلمه في كل مكان ، وما خالفهم في ذلك أحد يحتج بقوله .

                [ ص: 264 ] وذكر عن الضحاك بن مزاحم أنه قال في قوله : { ما يكون من نجوى ثلاثة } قال : هو على عرشه وعلمه معهم أينما كانوا .

                وعن سفيان الثوري مثل ذلك .

                وعن ابن مسعود قال : الله فوق العرش ولا يخفى عليه شيء من أعمالكم .

                قال أبو عمر بن عبد البر : أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة والإيمان بها وحملها على الحقيقة لا على المجاز ، إلا أنهم لا يكيفون شيئا من ذلك ولا يحدون فيه صفة محصورة ، وأما أهل البدع الجهمية والمعتزلة كلها والخوارج فكلهم ينكرها ولا يحمل شيئا منها على الحقيقة ويزعمون أن من أقر بها مشبه وهم عند من أقر بها نافون للمعبود والحق فيها ما قال القائلون : بما نطق به كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهم أئمة الجماعة وقال أبو عمر : الذي عليه أهل السنة وأئمة الفقه والأثر في هذه المسألة وما أشبهها الإيمان بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها والتصديق بذلك وترك التحديد والكيفية في شيء منه .

                وقال الشيخ العارف أبو محمد عبد القادر بن أبي صالح الكيلاني في كتاب " الغنية " له : أما معرفة الصانع بالآيات والدلالات - على وجه الاختصار - فهو أن يعرف ويتيقن أن الله واحد أحد .

                إلى أن قال وهو بجهة العلو مستو على العرش محتو على الملك محيط علمه بالأشياء .

                قال : ولا يجوز وصفه بأنه في كل مكان ، بل يقال إنه في السماء على العرش .

                كما قال { الرحمن على العرش استوى } وذكر الآيات والأحاديث إلى أن قال : وينبغي إطلاق صفة الاستواء [ ص: 265 ] من غير تأويل وأنه استواء الذات على العرش .

                قال وكونه على العرش مذكور في كل كتاب أنزل على نبي أرسل بلا كيف .

                وذكر كلاما طويلا .

                وقال الإمام أبو الحسن الكرخي الشافعي في مقدمته المشهورة في " اعتقاد أهل السنة " وهي منقولة من خط الشيخ أبي عمرو بن الصلاح :

                عقيدتهم أن الإله بذاته على عرشه مع علمه بالغوائب

                وهذه الآثار لم أذكرها كلها للرسول لكن هي مما أشرت إليه بقولي : إني لم أقل شيئا من نفسي وإنما قلت ما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها وهذا الموضع يضيق بها في ذلك من كلام الأمة فقال لي : نعم هو مستو على العرش حقيقة بذاته بلا تكييف ولا تشبيه .

                قلت نعم وهذا هو في " العقيدة " فقال فاكتب هذه الساعة أو قال اكتب هذا أو نحو هذا فقلت هذا هو مكتوب بهذا اللفظ في العقيدة التي عندكم التي بحثت بدمشق واتفق عليها المسلمون فأي شيء هو الذي أريده ؟ وقلت له : أنا قد أحضرت أكثر من خمسين كتابا - من كتب أهل الحديث والتصوف والمتكلمين والفقهاء الأربعة : الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية - توافق ما قلت .

                وقلت : أنا أمهل من خالفني ثلاث سنين أن يجيء بحرف واحد عن أئمة الإسلام يخالف ما قلته .

                فما الذي أصنعه ؟ فلما خرج الطيبرسي والفتاح عاد الفتاح بعد ساعة فقال : يسلم عليك [ ص: 266 ] نائب السلطان وقال : فاكتب لنا الآن " عقيدة " بخطك فقلت : سلم على نائب السلطان ، وقل له : لو كتبت الساعة شيئا لقال القائل : قد زاد ونقص أو غير الاعتقاد وهكذا بدمشق لما طلبوا الاعتقاد لم أتهم إلا بشيء قد كتب متقدما .

                قلت : وهذا الاعتقاد هو الذي قرئ بالشام في المجالس الثلاثة وقد أرسله إليكم نائبكم مع البريد والجميع عندكم ثم أرسل لكم مع العمري ثانيا لما جاء الكتاب الثاني ما قاله : القضاة والعلماء والمحضر وكتاب البخاري الذي قرأه المزي ، والاعتقاد ليس هو شيئا أبتدئه من عندي حتى يكون كل يوم لي اعتقاد وهو ذلك الاعتقاد بعينه والنسخة بعينها .

                فانظروا فيها فراح ، ثم عاد ، وطلب أن أكتب بخطي أي شيء كان .

                فقلت فما الذي أكتبه قال مثل العفو وألا تتعرض لأحد .

                فقلت : نعم هذا أنا مجيب إليه ، ليس غرضي في إيذاء أحد ، ولا الانتقام منه ولا مؤاخذته .

                وأنا عاف عمن ظلمني .

                وأردت أن أكتب هذا ثم قلت مثل هذا ما جرت العادة بكتابته فإن عفو الإنسان عن حقه لا يحتاج إلى هذا .

                وتعلم أن الأمر لما جرى على هذا الوجه كاد بعض القلوب يتغير على الشيخ وظنوا أن هذا الدرج قد أقر به ، وأن ذلك يناقض ما كان يقوله ويرسل به .

                فجعلت أنا وأخي ندفع ذلك .

                ونقول : هذا من فعل ابن مخلوف وقد تحققت أنا أن ذلك من عمل ابن مخلوف .

                ويعرف الشيخ أن مثل هذه القضية التي قد اشتهرت وانتشرت لا تندفع [ ص: 267 ] على هذا الوجه ، فأنا أبذل غاية ما وسعني من الإحسان ، وترك الانتقام ، وتأليف القلوب ، لكن هو يعرف خلقا كثيرا ممن بالديار المصرية ، وأن الإنسان لا ينجو من شرهم وظلمهم إلا بأخذ طريقين : أحدهما مستقر ، والآخر متقلب .

                ( الأول : أن يكون له من الله تأييد وسلطان والتجاء إليه واستعانة به وتوكل عليه واستغفار له وطاعة له : يدفع به عنه شر شياطين الإنس والجن .

                وهذه الطريقة هي الثابتة الباقية .

                والطريق الثاني : إن جاء من ذي جاه ، فإنهم يراعون ذا الجاه ما دام جاهه قائما فإذا انقلب جاهه كانوا من أعظم الناس قياما عليه هم بأعيانهم ، حتى إنهم قد يضربون القاضي بالمقارع ونحو ذلك مما لا يكاد يعرف لغيرهم أعداؤه ومبغضوه كثيرون وقد دخل في إثباتات وأملاك وغير ذلك متعلقة بالدولة وغير الدولة .

                فلو حصل من ذوي الجاه من له غرض في نقض أحكامه ونقل الأملاك كان ذلك من أيسر الأمور عليه : أما أن يكتب ردته ، وأحكام المرتد لا تنفذ لأنه قد علم منه الخاص والعام أنه جعل ما فعل في هذه القضية شرع محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ، والإنسان متى حلل الحرام - المجمع عليه - أو حرم الحلال - المجمع عليه - أو بدل الشرع - المجمع عليه - كان كافرا مرتدا باتفاق الفقهاء .

                وفي مثل هذا [ ص: 268 ] نزل قوله على أحد القولين : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } أي هو المستحل للحكم بغير ما أنزل الله ، ولفظ الشرع يقال في عرف الناس على ثلاثة معان : " الشرع المنزل " وهو ما جاء به الرسول وهذا يجب اتباعه ومن خالفه وجبت عقوبته .

                والثاني " الشرع المؤول " وهو آراء العلماء المجتهدين فيها كمذهب مالك ونحوه .

                فهذا يسوغ اتباعه ولا يجب ولا يحرم ، وليس لأحد أن يلزم عموم الناس به ولا يمنع عموم الناس منه .

                والثالث " الشرع المبدل " وهو الكذب على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أو على الناس بشهادات الزور ونحوها والظلم البين فمن قال إن هذا من شرع الله فقد كفر بلا نزاع .

                كمن قال : إن الدم والميتة حلال - ولو قال هذا مذهبي ونحو ذلك .

                فلو كان الذي حكم به ابن مخلوف هو مذهب مالك أو الأشعري ، لم يكن له أن يلزم جميع الناس به ويعاقب من لم يوافقه عليه باتفاق الأمة ، فكيف والقول الذي يقوله ويلزم به هو خلاف نص مالك وأئمة أصحابه وخلاف نص الأشعري وأئمة أصحابه : كالقاضي أبي بكر وأبي الحسن الطبري [ ص: 269 ] وأبي بكر بن فورك وأبي القاسم القشيري وأبي بكر البيهقي ؟ وغير هؤلاء ، كلهم مصرحون بمثل ما قلناه ، وبنقيض ما قاله .

                ولهذا اصطلحت الحنبلية والأشعرية واتفق الناس كلهم .

                ولما رأى الحنبلية كلام أبي الحسن الأشعري قالوا : هذا خير من كلام الشيخ الموفق وزال ما كان في القلوب من الأضغان وصار الفقهاء من الشافعية وغيرهم : يقولون الحمد لله على اتفاق كلمة المسلمين .

                ثم لو فرض أن هذا الذي حكم فيه مما يسوغ فيه الاجتهاد : لم يكن له أن ينقض حكم غيره فكيف إذا نقض حكم حكام الشام جميعهم بلا شبهة ، بل بما يخالف دين المسلمين بإجماع المسلمين ولو زعم زاعم أن حكام الشام مكرهون ، ففيهم من يصرح بعدم الإكراه غير واحد وهؤلاء بمصر كانوا أظهر إكراها لما اشتهر عند الناس أنه فعل ذلك لأجل غرض الدولة المتعلق بالملك وأنه لولا ذلك لتكلم الحكام بأشياء وهذا ثابت عن حكام مصر .

                فكيف وهذا الحكم الذي حكم به مخالف لشريعة الإسلام من بضعة وعشرين وجها ؟ وعامتها بإجماع المسلمين ، والوجوه مكتوبة مع الشرف محمد فينبغي أن يعرف الشيخ " نصر " بحقيقة الأمر وباطن القضية ليطبها بتدبيره .

                فأنا ليس مرادي إلا طاعة الله ورسوله وما يخاف على المصريين إلا من بعضهم في بعض : كما جرت به العادة .

                وقد سمعتم ما جرى بدمشق - مع أن [ ص: 270 ] أولئك أقرب إلى الاتفاق - من تجديد القاضي المذكور إسلامه عند القاضي الآخر .

                وأنا لما كنت هناك كان هذا الآذن " يحيى الحنفي " فذهب إلى القاضي تقي الدين الحنبلي وجدد إسلامه وحكم بحقن دمه لما قام عليه بعض أصحابهم في أشياء .

                وكان من مدة لما كان القاضي حسام الدين الحنفي مباشرا لقضاء الشام : أراد أن يحلق لحية هذا الأذرعي وأحضر الموسى والحمار ليركبه ويطوف به فجاء أخوه عرفني ذلك فقمت إليه ولم أزل به حتى كف عن ذلك .

                وجرت أمور لم أزل فيها محسنا إليهم .

                وهذه الأمور ليست من فعلي ولا فعل أمثالي .

                نحن إنما ندخل فيما يحبه الله ورسوله والمؤمنون ، ليس لنا غرض مع أحد ، بل نجزي بالسيئة الحسنة ونعفو ونغفر .

                وهذه القضية قد انتشرت وظهر ما فعل فيها وعلمه الخاص والعام .

                فلو تغيرت الأحوال حتى جاء أمير أو وزير له في نقل ملك قد أثبته أو حكم به : لكان هذا عند المصريين من أسهل ما يكون .

                فيثبتون ردته والمرتد أحكامه مردودة باتفاق العلماء ويعود ضرره على الذين أعانوه ونصروه بالباطل من أهل الدولة وغيرهم .

                وهذا أمر كبير لا ينبغي إهماله .

                فالشيخ خبير يعرف عواقب الأمور .

                [ ص: 271 ] وأنا والله من أعظم الناس معاونة على إطفاء كل شر فيها وفي غيرها وإقامة كل خير ، وابن مخلوف لو عمل مهما عمل والله ما أقدر على خير إلا وأعمله معه ولا أعين عليه عدوه قط .

                ولا حول ولا قوة إلا بالله .

                هذه نيتي وعزمي ، مع علمي بجميع الأمور .

                فإني أعلم أن الشيطان ينزغ بين المؤمنين ولن أكون عونا للشيطان على إخواني المسلمين .

                ولو كنت خارجا لكنت أعلم بماذا أعاونه ، لكن هذه مسألة قد فعلوها زورا والله يختار للمسلمين جميعهم ما فيه الخيرة في دينهم ودنياهم .

                ولن ينقطع الدور وتزول الحيرة إلا بالإنابة إلى الله والاستغفار والتوبة وصدق الالتجاء .

                فإنه سبحانه لا ملجأ منه إلا إليه ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية