الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب مهل أهل مكة للحج والعمرة

                                                                                                                                                                                                        1452 حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا وهيب حدثنا ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال إن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل الشأم الجحفة ولأهل نجد قرن المنازل ولأهل اليمن يلملم هن لهن ولمن أتى عليهن من غيرهن ممن أراد الحج والعمرة ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ حتى أهل مكة من مكة [ ص: 450 ]

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        [ ص: 450 ] قوله : ( باب مهل أهل مكة للحج والعمرة ) المهل بضم الميم وفتح الهاء وتشديد اللام ، موضع الإهلال ، وأصله رفع الصوت ، لأنهم كانوا يرفعون أصواتهم بالتلبية عند الإحرام ، ثم أطلق على نفس الإحرام اتساعا ، قال ابن الجوزي : وإنما يقوله بفتح الميم من لا يعرف ، وقال أبو البقاء العكبري : هو مصدر بمعنى الإهلال ، كالمدخل والمخرج بمعنى الإدخال والإخراج ، وأشار المصنف بالترجمة إلى حديث ابن عمر ، فإنه سيأتي بلفظ : " مهل " ، وأما حديث الباب فذكره بلفظ " وقت " أي حدد ، وأصل التوقيت أن يجعل للشيء وقت يختص به ، ثم اتسع فيه ، فأطلق على المكان أيضا ، قال ابن الأثير : التوقيت والتأقيت أن يجعل للشيء وقت يختص به ، وهو بيان مقدار المدة يقال : وقت الشيء بالتشديد يوقته ، ووقت بالتخفيف يقته إذا بين مدته ، ثم اتسع فيه فقيل للموضع : ميقات . وقال ابن دقيق العيد : قيل : إن التوقيت في اللغة التحديد والتعيين ، فعلى هذا فالتحديد من لوازم الوقت ، وقوله هنا : " وقت " يحتمل أن يريد به التحديد ؛ أي حد هذه المواضع للإحرام ، ويحتمل أن يريد به تعليق الإحرام بوقت الوصول إلى هذه الأماكن بالشرط المعتبر . وقال عياض : وقت أي حدد ، وقد يكون بمعنى أوجب . ومنه قوله تعالى : إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا . انتهى . ويؤيده الرواية الماضية بلفظ : " فرض " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ) ؛ أي مدينته عليه الصلاة والسلام .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ذا الحليفة ) بالمهملة والفاء مصغرا ، مكان معروف بينه وبين مكة مائتا ميل غير ميلين ، قاله ابن حزم ، وقال غيره : بينهما عشر مراحل . وقال النووي : بينها وبين المدينة ستة أميال ، ووهم من قال : بينهما ميل واحد ، وهو ابن الصباغ . وبها مسجد يعرف بمسجد الشجرة خراب ، وبها بئر يقال لها : بئر علي .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( الجحفة ) بضم الجيم وسكون المهملة ، وهي قرية خربة بينها وبين مكة خمس مراحل أو ستة ، وفي قول النووي في " شرح المهذب " ثلاث مراحل نظر ، وسيأتي في حديث ابن عمر أنها مهيعة بوزن علقمة ، وقيل : بوزن لطيفة ، وسميت الجحفة ، لأن السيل أجحف بها ، قال ابن الكلبي : كان العماليق يسكنون يثرب ، فوقع بينهم وبين بني عبيل - بفتح المهملة وكسر الموحدة ، وهم إخوة عاد - حرب ، فأخرجوهم من يثرب ، فنزلوا مهيعة ، فجاء سيل فاجتحفهم أي استأصلهم ، فسميت الجحفة . ووقع في حديث عائشة عند النسائي : " ولأهل الشام ومصر الجحفة " . والمكان الذي يحرم منه المصريون الآن رابغ بوزن فاعل ؛ براء [ ص: 451 ] وموحدة وغين معجمة ، قريب من الجحفة ، واختصت الجحفة بالحمى فلا ينزلها أحد إلا حم ، كما سيأتي في فضائل المدينة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ولأهل نجد قرن المنازل ) أما نجد فهو كل مكان مرتفع ، وهو اسم لعشرة مواضع ، والمراد منها هنا التي أعلاها تهامة واليمن ، وأسفلها الشام والعراق . والمنازل بلفظ جمع المنزل ، والمركب الإضافي هو اسم المكان ، ويقال له : قرن أيضا بلا ، إضافة ، وهو بفتح القاف وسكون الراء بعدها نون ، وضبطه صاحب " الصحاح " بفتح الراء ، وغلطوه ، وبالغ النووي فحكى الاتفاق على تخطئته في ذلك ، لكن حكى عياض تعليق القابسي أن من قاله بالإسكان أراد الجبل ، ومن قاله بالفتح أراد الطريق ، والجبل المذكور بينه وبين مكة من جهة المشرق مرحلتان . وحكى الروياني عن بعض قدماء الشافعية أن المكان الذي يقال له : قرن موضعان : أحدهما في هبوط ، وهو الذي يقال له قرن المنازل ، والآخر في صعود ، وهو الذي يقال له قرن الثعالب والمعروف الأول . وفي " أخبار مكة " . للفاكهي أن قرن الثعالب جبل مشرف على أسفل منى بينه وبين مسجد منى ألف وخمسمائة ذراع ، وقيل له : قرن الثعالب ، لكثرة ما كان يأوي إليه من الثعالب ، فظهر أن قرن الثعالب ليس من المواقيت ، وقد وقع ذكره في حديث عائشة في إتيان النبي صلى الله عليه وسلم الطائف يدعوهم إلى الإسلام ، وردهم عليه ، قال : فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب . الحديث ، ذكره ابن إسحاق في السيرة النبوية ، ووقع في مرسل عطاء عند الشافعي : " ولأهل نجد قرن ، ولمن سلك نجدا من أهل اليمن وغيرهم قرن المنازل " . ووقع في عبارة القاضي حسين في سياقه لحديث ابن عباس هذا : " ولأهل نجد اليمن ونجد الحجاز قرن " . وهذا لا يوجد في شيء من طرق حديث ابن عباس ، وإنما يوجد ذلك من مرسل عطاء ، وهو المعتمد ، فإن لأهل اليمن إذا قصدوا مكة طريقين : إحداهما طريق أهل الجبال وهم يصلون إلى قرن أو يحاذونه ، فهو ميقاتهم كما هو ميقات أهل المشرق ، والأخرى طريق أهل تهامة فيمرون بيلملم أو يحاذونه ، وهو ميقاتهم لا يشاركهم فيه إلا من أتى عليه من غيرهم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ولأهل اليمن يلملم ) بفتح التحتانية واللام وسكون الميم ، بعدها لام مفتوحة ، ثم ميم مكان على مرحلتين من مكة بينهما ثلاثون ميلا ، ويقال لها ألملم بالهمزة ، وهو الأصل ، والياء تسهيل لها ، وحكى ابن السيد فيه يرمرم براءين بدل اللامين .

                                                                                                                                                                                                        ( تنبيه ) أبعد المواقيت من مكة ذو الحليفة ميقات أهل المدينة ، فقيل : الحكمة في ذلك أن تعظم أجور أهل المدينة ، وقيل : رفقا بأهل الآفاق ، لأن أهل المدينة أقرب الآفاق إلى مكة ، أي ممن له ميقات معين .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( هن لهم ) أي المواقيت المذكورة لأهل البلاد المذكورة . ووقع في رواية أخرى كما يأتي في " باب دخول مكة بغير إحرام " . بلفظ : " هن لهن " ؛ أي المواقيت للجماعات المذكورة أو لأهلهن على حذف المضاف ، والأول هو الأصل ، ووقع في " باب مهل أهل اليمن " . بلفظ : " هن لأهلهن " ، كما شرحته . وقوله : هن ، ضمير جماعة المؤنث ، وأصله لمن يعقل ، وقد استعمل فيما لا يعقل ، لكن فيما دون العشرة ، وقوله : " ولمن أتى عليهن " ؛ أي على المواقيت من غير أهل البلاد المذكورة ، ويدخل في ذلك من دخل بلدا ذات ميقات ، ومن لم يدخل ، فالذي لا يدخل لا إشكال فيه إذا لم يكن له ميقات معين ، والذي يدخل فيه خلاف كالشامي إذا أراد الحج فدخل المدينة فميقاته ذو الحليفة لاجتيازه عليها ، ولا يؤخر حتى يأتي الجحفة التي هي [ ص: 452 ] ميقاته الأصلي ، فإن أخر أساء ، ولزمه دم عند الجمهور ، وأطلق النووي الاتفاق ، ونفى الخلاف في شرحيه لمسلم والمهذب في هذه المسألة ، فلعله أراد في مذهب الشافعي ، وإلا فالمعروف عند المالكية أن للشامي مثلا إذا جاوز ذا الحليفة بغير إحرام إلى ميقاته الأصلي - وهو الجحفة - جاز له ذلك ، وإن كان الأفضل خلافه ، وبه قال الحنفية وأبو ثور وابن المنذر من الشافعية ، قال ابن دقيق العيد : قوله " ولأهل الشام الجحفة " . يشمل من مر من أهل الشام بذي الحليفة ومن لم يمر ، وقوله : ولمن أتى عليهن من غير أهلهن يشمل الشامي إذا مر بذي الحليفة وغيره ، فهنا عمومان قد تعارضا . انتهى ملخصا . ويحصل الانفكاك عنه بأن قوله : " هن لهن " . مفسر لقوله مثلا : وقت لأهل المدينة ذا الحليفة ، وأن المراد بأهل المدينة ساكنوها ، ومن سلك طريق سفرهم ، فمر على ميقاتهم ، ويؤيده عراقي خرج من المدينة ، فليس له مجاوزة ميقات المدينة غير محرم ، ويترجح بهذا قول الجمهور وينتفي التعارض .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ممن أراد الحج والعمرة ) فيه دلالة على جواز دخول مكة بغير إحرام ، وسيأتي في ترجمة مفردة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ومن كان دون ذلك ) أي بين الميقات ومكة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فمن حيث أنشأ ) أي فميقاته من حيث أنشأ الإحرام ، إذ السفر من مكانه إلى مكة ، وهذا متفق عليه إلا ما روي عن مجاهد أنه قال : ميقات هؤلاء نفس مكة ، واستدل به ابن حزم على أن من ليس له ميقات فميقاته من حيث شاء ، ولا دلالة فيه ، لأنه يختص بمن كان دون الميقات ، أي إلى جهة مكة كما تقدم ، ويؤخذ منه أن من سافر غير قاصد للنسك فجاوز الميقات ، ثم بدا له بعد ذلك النسك أنه يحرم من حيث تجدد له القصد ، ولا يجب عليه الرجوع إلى الميقات ، لقوله : " فمن حيث أنشأ " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( حتى أهل مكة ) يجوز فيه الرفع والكسر .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( من مكة ) أي لا يحتاجون إلى الخروج إلى الميقات للإحرام منه ، بل يحرمون من مكة كالآفاقي الذي بين الميقات ومكة ، فإنه يحرم من مكانه ، ولا يحتاج إلى الرجوع إلى الميقات ليحرم منه ، وهذا خاص بالحاج ، واختلف في أفضل الأماكن التي يحرم منها كما سيأتي في ترجمة مفردة . وأما المعتمر فيجب عليه أن يخرج إلى أدنى الحل كما سيأتي بيانه في أبواب العمرة . قال المحب الطبري : لا أعلم أحدا جعل مكة ميقاتا للعمرة ، فتعين حمله على القارن ، واختلف في القارن ، فذهب الجمهور إلى أن حكمه حكم الحاج في الإهلال من مكة ، وقال ابن الماجشون : يجب عليه الخروج إلى أدنى الحل ، ووجهه أن العمرة إنما تندرج في الحج فيما محله واحد كالطواف والسعي عند من يقول بذلك ، وأما الإحرام فمحله فيهما مختلف ، وجواب هذا الإشكال أن المقصود من الخروج إلى الحل في حق المعتمر أن يرد على البيت الحرام من الحل ، فيصح كونه وافدا عليه ، وهذا يحصل للقارن لخروجه إلى عرفة ، وهي من الحل ، ورجوعه إلى البيت لطواف الإفاضة ، فحصل المقصود بذلك أيضا . واختلف فيمن جاوز الميقات مريدا للنسك فلم يحرم ، فقال الجمهور : يأثم ويلزمه دم ، فأما لزوم الدم ، فبدليل غير هذا ، وأما الإثم فلترك الواجب . وقد تقدم الحديث من طريق ابن عمر بلفظ : " فرضها " ، وسيأتي بلفظ " يهل " وهو خبر بمعنى الأمر والأمر لا يرد بلفظ الخبر إلا إذا أريد تأكيده ، وتأكيد الأمر للوجوب ، وسبق في العلم بلفظ : " من أين تأمرنا أن نهل ؟ " ولمسلم من طريق [ ص: 453 ] عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل المدينة . وذهب عطاء والنخعي إلى عدم الوجوب ، ومقابله قول سعيد بن جبير لا يصح حجه ، وبه قال ابن حزم ، وقال الجمهور : لو رجع إلى الميقات قبل التلبس بالنسك سقط عنه الدم ، قال أبو حنيفة : بشرط أن يعود ملبيا . ومالك : بشرط أن لا يبعد . وأحمد : لا يسقط بشيء .

                                                                                                                                                                                                        ( تنبيه ) : الأفضل في كل ميقات أن يحرم من طرفه الأبعد من مكة ، فلو أحرم من طرفه الأقرب جاز .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية