الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان سبحانه قد نفى عنهم الإيمان بالتولي عن الأحكام، وتلاه بما رأيت أن تنظمه أحسن نظام، حتى ختم بما أومأ إلى أن من عمي عن أحكامه بعد هذا البيان مسلوب العقل، وكرر في هذه السورة ذكر البيان، تكريرا أشار إلى لمعان المعاني بأمتن بنان حتى صارت مشخصات للعيان، وبين من حاز وصف الإيمان، بحسن الاستئذان، وكان أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أجل موطن تجب الإقامة فيه ويهجر ما عداه من الأوطان، فتصير الأرض برحبها ضيقة لأجله، محظورا سلوكها من جراه، بمنزلة بيت الغير الذي لا يحل دخوله بغير إذن، قال معرفا بذلك على طريق الحصر مقابلا لسلب وما أولئك بالمؤمنين مبينا عظيم الجناية في الذهاب عن مجلس النبي صلى الله عليه وسلم المقتضي للجمع من غير إذن: إنما المؤمنون أي الكاملون الذين لهم الفلاح [ ص: 322 ] الذين آمنوا بالله أي الملك الأعلى ورسوله ظاهرا وباطنا.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان الكلام في الراسخين، كان الموضع لأداة التحقيق فقال: وإذا أي وصدقوا إيمانهم بأنهم إذا كانوا معه أي الرسول صلى الله عليه السلام على أمر جامع أي لهم على الله، كالجهاد لأعداء الله، والتشاور في مهم، وصلاة الجمعة، ونحو ذلك لم يذهبوا عن ذلك الأمر خطوة إلى موضع من الأرض ولو أنه بيوتهم، لشيء من الأشياء ولو أنه أهم مهماتهم، لأنه أخذ عليهم الميثاق بالطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره حتى يستأذنوه فيأذن لهم، لأن المأمور به قد صار منزلهم ومأواهم ومتبوأهم، وصار كل ما سواه من الأماكن والأمور له عليه الصلاة والسلام دونهم، لا حظ لهم فيه، فلا يحل لهم أن يدخلوه حسا أو معنى إلا بإذنه، وهذا من عظيم التنبيه على علي أمره، وشريف قدره، وذلك أنه سبحانه كما أمرهم بالاستئذان عند الدخول عليه وعلى غيره، أفرده بأمرهم باستئذانه عند الانصراف عنه صلى الله عليه وسلم، وجعل رتبة ذلك تالية لرتبة الإيمان بالله والرسول، وجعلهما كالتسبيب له مع تصدير الجملة بأداة الحصر، وإيقاع المؤمنين في مبتدأ مخبرا عنه بموصول أحاطت وصلته بالرتب الثلاث شرحا له.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 323 ] ولما نفى عن المؤمنين الذهاب إلى غاية الاستئذان، فأفهم أن المستأذن مؤمن، صرح بهذا المفهوم ليكون آكد، فقال تشديدا في الإخلال بالأدب بين يديه صلى الله عليه وسلم، وتأكيدا لحفظ حرمته والأدب معه لئلا يتشوش فكره في أسلوب آخر، وبيانا لأن الاستئذان مصداق الإيمان: إن الذين يستأذنونك أي يطلبون إذنك لهم إذا أرادوا الانصراف، في شيء من أمورهم التي يحتمل أن تمنع منها أولئك العالو الرتبة خاصة الذين يؤمنون أي يوجدون الإيمان في كل وقت بالله الذي له الأمر كله فلا كفؤ له ورسوله وذلك ناظم لأشتات خصال الإيمان.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما قصرهم على الاستئذان،تسبب عن ذلك إعلامه صلى الله عليه وسلم بما يفعل إذ ذاك فقال: فإذا استأذنوك أي هؤلاء الذين صحت دعواهم; وشدد عليهم تأكيدا لتعظيم الأدب معه صلى الله عليه وسلم بقوله: لبعض شأنهم وهو ما تشتد الحاجة إليه فأذن لمن شئت منهم قيل: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صعد المنبر يوم الجمعة فمن أراد أن يخرج لعذر قام بحياله فيعرف أنه يستأذن فيأذن لمن شاء ، قال مجاهد : وإذن الإمام يوم الجمعة أن يشير بيده، وقيل: كذلك ينبغي أن يكون الناس مع أئمتهم ومقدميهم [ ص: 324 ] في الدين والعلم لا يخذلونهم في نازلة من النوازل.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما أثبت له بهذا التفويض من الشرف ما لا يبلغ وصفه، أفهمهم أن حال المستأذن قاصرة عن حال المفوض الملازم كيفما كانت، فقال: واستغفر لهم الله أي الذي له الغنى المطلق، فلا تنفعه طاعة، ولا تضره معصية، أو يكون الكلام شاملا لمن صحت دعواه وغيره; ثم علل ذلك ترغيبا في الاستغفار، وتطييبا لقلوب أهل الأوزار، بقوله: إن الله أي الذي له صفات الكمال غفور أي له هذا الوصف فهو جدير بأن يغفر لهم ما قصروا فيه رحيم أي فكل ما أمرهم به فهو خير لهم وإن تراءى لهم خلافه.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية