الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولو اتبع الحق أهواءهم الحق الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وجعل الاتباع حقيقيا والإسناد مجازيا، وقيل ما آل المعنى لو اتبع النبي صلى الله عليه وسلم أهواءهم فجاءهم بالشرك بدل ما أرسل به لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن أي لخرب الله تعالى العالم وقامت القيامة لفرط غضبه سبحانه وهو فرض محال من تبديله عليه الصلاة والسلام وما أرسل به من عنده، وجوز أن يكون المراد بالحق الأمر المطابق للواقع في شأن الألوهية والاتباع مجازا عن الموافقة أي لو وافق الأمر المطابق للواقع أهواءهم بأن كان الشرك حقا لفسدت السموات والأرض حسبما قرر في قوله تعالى: لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا [الأنبياء: 22] ولعل الكلام عليه اعتراض للإشارة إلى أنهم كرهوا شيئا لا يمكن خلافه أصلا فلا فائدة لهم في هذه الكراهة. واعترض بأنه لا يناسب المقام وفيه بحث، وكذا ما قيل: إن ما يوافق أهواءهم هو الشرك في الألوهية لأن قريشا كانوا وثنية وهو لا يستلزم الفساد والذي يستلزمه إنما هو الشرك في الربوبية كما تزعمه الثنوية وهم لم يكونوا كذلك كما ينبئ عنه قوله تعالى: ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله [لقمان: 25، الزمر: 38] .

                                                                                                                                                                                                                                      وجوز أن يكون المعنى لو وافق الحق مطلقا أهواءهم لخرجت السموات والأرض عن الصلاح والانتظام بالكلية، والكلام استطراد لتعظيم شأن الحق مطلقا بأن السموات والأرض ما قامت ولا من فيهن إلا به ولا يخلو عن حسن. وقيل: المراد بالحق هو الله تعالى.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أخرجه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي صالح ، وحكاه بعضهم عن ابن جريج والزمخشري عن قتادة ، والمعنى عليه لو كان الله تعالى يتبع أهواءهم ويفعل ما يريدون فيشرع لهم الشرك ويأمرهم به لم يكن سبحانه إلها فتفسد السموات والأرض. وهذا مبني على أن شرع الشرك نقص يجب تنزيه الله تعالى عنه. وقد ذكر ذلك الخفاجي وذكر أنه قد قام الدليل العقلي عليه وأنه لا خلاف فيه. ولعل الكلام عليه اعتراض أيضا للإشارة إلى عدم إمكان إرسال النبي عليه الصلاة والسلام إليهم بخلاف ما جاء به مما لا يكرهونه فكراهتهم لما جاء به عليه الصلاة والسلام لا تجديهم نفعا فالقول بأنه بعيد عن مقتضى المقام ليس في محله. وقيل: المعنى عليه لو فعل الله تعالى ما يوافق أهواءهم لاختل نظام العالم لما أن آراءهم متناقضة، وفيه إشارة إلى فساد عقولهم وأنهم لذلك كرهوا ما كرهوه من الحق الذي [ ص: 53 ] جاء به عليه الصلاة والسلام وهو كما ترى.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ ابن وثاب «ولو اتبع» بضم الواو بل أتيناهم بذكرهم انتقال من تشنيعهم بكراهة الحق إلى تشنيعهم بالإعراض عما جبل عليه كل نفس من الرغبة فيما فيه خيرها. والمراد بالذكر القرآن الذي هو فخرهم وشرفهم حسبما ينطق به قوله تعالى: وإنه لذكر لك ولقومك [الزخرف: 44] أي بل أتيناهم بفخرهم وشرفهم الذي كان يجب عليهم أن يقبلوا عليه أكمل إقبال ويقبلوا ما فيه أكمل قبول ( فهم ) بما فعلوا من النكوص عن ذكرهم أي فخرهم وشرفهم خاصة ( معرضون ) لا عن غير ذلك مما لا يوجب الإقبال عليه والاعتناء به، وفي وضع الظاهر موضع الضمير مزيد تشنيع لهم وتقريع، والفاء لترتيب ما بعدها من إعراضهم عن ذكرهم على ما قبلها من الإتيان بذكرهم، ومن فسر (الحق ) في قوله تعالى: بل جاءهم بالحق بالقرآن الكريم قال هنا: في إسناد الإتيان بالذكر إلى نون العظمة بعد إسناده إلى ضميره عليه الصلاة والسلام تنويه بشأن النبي صلى الله عليه وسلم وتنبيه على كونه عليه الصلاة والسلام بمثابة عظيمة منه عز وجل، وفي إيراد القرآن الكريم عند نسبته إليه صلى الله عليه وسلم بعنوان الحقية وعند نسبته إليه تعالى بعنوان الذكر من النكتة السرية والحكمة العبقرية ما لا يخفى فإن التصريح بحقيته المستلزمة لحقية من جاء به هو الذي يقتضيه مقام حكاية ما قاله المبطلون في شأنه وأما التشريف فإنما يليق به تعالى لا سيما رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد المشرفين. وقيل: المراد بذكرهم ما تمنوه بقولهم: لو أن عندنا ذكرا من الأولين لكنا عباد الله المخلصين فكأنه قيل: بل أتيناهم الكتاب الذي تمنوه وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد بالذكر الوعظ.

                                                                                                                                                                                                                                      وأيد بقراءة عيسى «بذكراهم» بألف التأنيث، ورجح القولان الأولان بأن التشنيع عليهما أشد فإن الإعراض عن وعظهم ليس بمثابة إعراضهم عن شرفهم وفخرهم أو عن كتابهم الذي تمنوه في الشناعة والقباحة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: إن الوعظ فيه بيان ما يصلح به حال من يوعظ فالتشنيع بالإعراض عنه لا يقصر عن التشنيع بالإعراض عن أحد ذينك الأمرين ولا يخفى ما فيه من المكابرة. وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر ويونس عن أبي عمرو «بل أتيتهم» بتاء المتكلم، وابن أبي إسحاق وعيسى أيضا وأبو حيوة والجحدري وابن قطيب وأبو رجاء «بل أتيتهم» بتاء الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم وأبو عمرو وفي رواية «أتيناهم» بالمد ولا حاجة على هذه القراءة إلى ارتكاب مجاز أو دعوى حذف مضاف كما في قراءة الجمهور على تقدير جعل الباء للمصاحبة وقرأ قتادة «نذكرهم» بالنون مضارع ذكر.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية