الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( فصل ) :

                                                                                                                                وأما الذي يرجع إلى المصالح عنه .

                                                                                                                                فأنواع : أحدها : أن يكون حق العبد لا حق الله عز وجل سواء كان مالا عينا ، أو دينا ، أو حقا ليس بمال عين ، ولا دين حتى لا يصح الصلح من حد الزنا والسرقة وشرب الخمر بأن أخذ زانيا أو سارقا من غيره أو شارب خمر ، فصالحه على مال أن لا يرفعه إلى ولي الأمر ; لأنه حق الله تعالى جل شأنه ، ولا يجوز الصلح من حقوق الله تعالى عز شأنه ; لأن المصالح بالصلح متصرف في حق نفسه إما باستيفاء كل حقه ، أو باستيفاء البعض ، وإسقاط الباقي ، أو بالمعاوضة وكل ذلك لا يجوز في غير حقه ، وكذا إذا صالح من حد القذف بأن قذف رجلا فصالحه على مال على أن يعفو عنه ; لأنه ، وإن كان للعبد فيه حق فالمغلب فيه حق الله تعالى ، والمغلوب ملحق بالعدم شرعا فكان في حكم الحقوق المتمحضة حقا لله تعالى عز وجل وأنها لا تحتمل الصلح كذا هذا ، وكذلك لو صالح شاهدا يريد أن يشهد عليه على مال على أن لا يشهد عليه فهو باطل ; لأن الشاهد في إقامة الشهادة محتسب حقا لله تعالى عز شأنه قال الله سبحانه وتعالى ، { وأقيموا الشهادة لله } ، والصلح عن حقوق الله عز وجل باطل ، ويجب عليه رد ما أخذ ; لأنه أخذه بغير حق .

                                                                                                                                ولو علم القاضي به أبطل شهادته ; لأنه فسق إلا أن يحدث توبة فتقبل ، ويجوز الصلح عن التعزير ; لأنه حق العبد ، وكذا يصح عن القصاص في النفس ، وما دونه ; لأن القصاص من حق العبد سواء كان البدل عينا ، أو دينا إلا إذا كان دينا يشترط القبض في المجلس احترازا عن الافتراق عن دين بدين ، وسواء كان معلوما ، أو مجهولا جهالة غير متفاحشة حتى لو صالح من القصاص على عبد ، أو ثوب هروي جاز ; لأن الجهالة قلت ببيان النوع ; لأن مطلق العبد يقع على عبد وسط ، ومطلق الثوب الهروي يقع على الوسط منه ، فتقل الجهالة فيصح الصلح ، وله الخيار إن شاء أعطى الوسط من ذلك ، وإن شاء أعطى قيمته كما في النكاح فأما إذا صالح على ثوب أو دابة أو دار لا يجوز ; لأن الثياب والدواب أجناس تحتها أنواع مختلفة ، وجهالة النوع متفاحشة فتمنع الجواز ، وكذا جهالة الدور لاختلاف الأماكن ملحقة بجهالة الثوب ، والدابة فتمنع الجواز كما في باب النكاح ، والأصل أن كل جهالة تمنع صحة التسمية في باب النكاح تمنع صحة الصلح من القصاص ، وما لا فلا ; لأن ما وقع عليه الصلح ، والمهر كل واحد منهما يجب بدلا عما ليس بمال ، والجهالة لا تمنع من الصحة لعينها ألا ترى أن الشرع ورد بمهر المثل في باب النكاح مع أنه مجهول القدر ، وإنما يمنع منها لإفضائها إلى المنازعة ، ومبنى النكاح والصلح من القصاص على المسامحة كالإنسان يسامح بنفسه ما لا يسامح بماله عادة فلا يكون القليل من الجهالة مفضيا إلى المنازعة ، فلا يمنع من الجواز بخلاف باب البيع ; لأن مبناه على المعاكسة ، والمضايقة لكونه معاوضة مال بمال ، والإنسان يضايق بماله ما لا يضايق بنفسه فهو الفرق ، والله عز وجل الموفق ، وإذا لم يصح الصلح لتفاحش جهالة البدل يسقط القصاص ، وتجب الدية ، وفي النكاح [ ص: 49 ] يجب مهر المثل إلا أن بينهما فرقا من وجه ، فإنه لو صالح عن القصاص على خمر أو خنزير لا يصح ، ولا يجب شيء آخر .

                                                                                                                                ولو تزوج امرأة على خمر أو خنزير ; لا تصح التسمية ويجب مهر المثل .

                                                                                                                                ( وجه ) الفرق أن الخمر إذا لم تصلح بدل الصلح بطلت تسميته ، وجعل لفظة الصلح كناية عن العفو ، وذلك جائز ; لأن العفو الفضل ، وفي الصلح معنى الفضل فأمكن جعله كناية عنه ، وبعد العفو لا يجب شيء آخر ، فأما لفظ النكاح فلا يحتمل العفو ، ولو احتمله فالعفو عن حق الغير لا يصح فيبقى النكاح من غير تسمية فيجب مهر المثل ، كما إذا سكت عن المهر أصلا فهو الفرق ، وسواء كان البدل قدر الدية ، أو أقل ، أو أكثر لقوله تعالى { فمن عفي له من أخيه شيء ، فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان } قوله عز وجل : { فمن عفي له } أي أعطي له كذا روي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ، وقوله عز شأنه { فاتباع بالمعروف } أي فليتبع : مصدر بمعنى الأمر فقد أمر الله تبارك وتعالى الولي بالاتباع بالمعروف ، إذا أعطي له شيء ، واسم الشيء يتناول القليل والكثير فدلت الآية على جواز الصلح من القصاص على القليل ، والكثير ، وهذا بخلاف القتل الخطإ وشبه العمد أنه إذا صالح على أكثر من الدية لا يجوز ، والفرق أن بدل الصلح في باب الخطإ ، وشبه العمد عوض عن الدية ، وإنها مقدرة بمقدار معلوم لا تزيد عليه ، فالزيادة على المقدر تكون ربا فأما بدل الصلح عن القصاص ، فعوض عن القصاص ، والقصاص ليس من جنس المال حتى يكون البدل عنه زيادة على المال المقدر فلا يتحقق الربا فهو الفرق .

                                                                                                                                وأما كون المصالح عنه معلوما فليس بشرط لجواز الصلح حتى إن من ادعى على آخر حقا في عين ، فأقر به المدعى عليه ; أو أنكر فصالح على مال معلوم ; جاز ; لأن الصلح كما يصح بطريق المعاوضة يصح بطريق الإسقاط ، ولا يمكن تصحيحه هنا بطريق المعاوضة لجهالة أحد البدلين فيصحح بطريق الإسقاط فلا يؤدي إلى المنازعة المانعة من التسليم والتسلم والقبض ; لأن الساقط لا يحتمل ذلك ، وقد مر أن الجهالة فيما لا يحتمل التسليم ، والقبض لا تمنع جواز الصلح .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية