الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          قال رب إني أخاف أن يكذبون ويضيق صدري ولا ينطلق لساني فأرسل إلى هارون ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون قال كلا فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون ؛ [ ص: 5343 ] هذا جواب موسى لربه؛ وقد فصلت هذه الجملة لأنها جواب عن سؤال مقدر؛ وكيف أجاب موسى؛ وصدر كلامه بالنداء لربه؛ للدلالة على شعوره بأنه في كلاءته؛ وأنه سيعمل في رعايته وحمايته؛ إني أخاف أن يكذبون ؛ بكسر النون؛ للإشعار بأن ياء المتكلم محذوف؛ والخوف هنا لا يتضمن معنى النكوص عن الاستجابة لربه؛ إنما يتضمن معنى تقدير الموقف؛ وإرادة الاستعداد؛ والشعور بعظم المهمة التي كلفه الله (تعالى) إياها؛ وأنها تحتاج إلى جمع كل ما عنده من قوة؛ وقد أحس بموضع الضعف فيه؛ وهو البيان؛ مع توقع الضيق والحرج؛ ولذا قال: ويضيق صدري ولا ينطلق لساني فأرسل إلى هارون ؛ ضيق الصدر هو من التكذيب والمباهتة في قوة من فرعون؛ وطغيانه؛ فيكون في شدة من هجوم الباطل المؤزر بالطغيان الفرعوني؛ مع حبسة اللسان؛ فلا يستطيع رد إنكار أولئك الكاذبين المكذبين المزودين بطغيان عظيم؛ ولذا استغاث بربه قائلا: فأرسل إلى هارون ؛ والفاء لبيان أن ما بعدها مترتب على ما قبلها؛ أي: فإنه يترتب على هذه الحال التي أكون عليها أن أطلب إليك أن ترسل إلى أخي هارون بأن تجعل له رسالة معي؛ و " إلى " ؛ تدل على أن النهاية أن يكون رسولا معي؛ وهذا كقوله (تعالى): رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي اشدد به أزري وأشركه في أمري كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا إنك كنت بنا بصيرا

                                                          أجاب الله (تعالى) طلب موسى - عليه السلام -؛ وقال في آية أخرى: قال قد أوتيت سؤلك يا موسى ؛ ولكن موسى - عليه السلام - ذكر أن له عندهم ذنبا؛ وأنه يخاف أن يقتلوه؛ فقال: ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون ؛ والنون مكسورة منيبة عن ياء متكلم محذوفة؛ والذنب ليس إثما ذاتيا؛ إنما هو ذنب عندهم؛ فهو ذنب لهم؛ قد قدر موسى الكليم أن يسطوا عليه ويقتلوه؛ وذلك الذنب أنه قتل واحدا من المصريين؛ لاعتدائه على إسرائيلي من قومه؛ وقد قال (تعالى) - في ذلك؛ في سورة " القصص " -: ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان [ ص: 5344 ] هذا من شيعته وهذا من عدوه فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين

                                                          هذا هو الذنب؛ وسنتكلم في مقدار كونه ذنبا؛ عندما نتكلم على هذا في سورة " القصص " ؛ قريبا - إن شاء الله (تعالى).

                                                          أجابه الله (تعالى) على طلب هارون؛ وعلى بث روح العمل؛ ودفع الخوف؛ فقال: كلا فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون ؛ " كلا " ؛ حرف للرد مع ردع؛ أو قوة في الرد؛ والفاء للإفصاح؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر؛ أي: إذا كان ذلك ما تخاف فاذهبا؛ والخطاب بالتثنية دليل على أنه أجيب سؤله بالنسبة لهارون؛ فاذهبا بآياتنا ؛ أي: محملين بالآيات التي تدل على الرسالة؛ فإنه إذا كان قويا بسلطانه؛ فأنتما قويان بالحق الثابت بالآيات الباهرة القاهرة التي لا يماري فيها إلا أثيم؛ ثم طمأنهما على أنه لا يؤذيهما؛ فقال: إنا معكم مستمعون ؛ وقد أكد - سبحانه وتعالى - نصرتهما بثلاث مؤكدات؛ أولها: " إن " ؛ الدالة على التوكيد؛ والثاني: المعية في الله معهما؛ ومن كان الله معه لا يغلب؛ ولا يرهب أبدا؛ والثالثة: أنه مستمع لما يجري؛ مرتب عليه ما يستحقه أهل الطغيان؛ وهذا كقوله - في سورة " طـه " -: إنني معكما أسمع وأرى ؛

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية