الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          كان كلام موسى - عليه السلام - متضمنا حجة قوية لإبطال ألوهية فرعون؛ وإنه بشر كسائر البشر؛ لا يملك خلقا؛ ولا إنشاء؛ ولذلك اتجه فرعون إلى رمي موسى بالجنون - أولا -؛ وتهديده بالسجن؛ فقال: قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين قال أولو جئتك بشيء مبين ؛ أول رمية رمى فرعون بها موسى هي الجنون؛ كما كان المشركون يقولون ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ وفي ذلك تسرية عن النبي - صلى الله (تعالى) عليه وسلم -؛ وأكد فرعون جنون موسى بـ " إن " ؛ وبلام التوكيد؛ وبالجملة الاسمية؛ وذكره بوصف الرسالة تهكما؛ وإمعانا في الإنكار والتنفير؛ وأنه مع جنونه المدعى أرسل إليكم؛ وفي ذلك تحريض على استنكار رسالته؛ كأنه يقول: اختير لكم رسول مجنون.

                                                          ولكن موسى؛ كليم الله؛ لم يرعه ذلك الكلام الباطل؛ ولم يهتز له؛ بل استمر في بيان بطلان ألوهية فرعون؛ فقال: إن ربه رب الكون: رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون ؛ أي أن أقصى سلطان فرعون أن يكون في مصر؛ ومصر ليست إلا جزءا من الأرض؛ والرب الخالق يكون رب الجميع؛ من سكان الأرض؛ والسماوات؛ والشرق؛ والغرب؛ فهل تستطيع أن تدعي هذا؟ بل إنك لا يمكن أن [ ص: 5349 ] تتطاول إلا على أهل مصر؛ الذين تعودوا الخنوع لحكامهم؛ في ماضيهم؛ وحاضرهم؛ فقول موسى - عليه السلام - لطاغوت مصر عن رب العالمين: رب المشرق والمغرب ؛ إبطال واضح لألوهية فرعون المدعاة؛ وقد التفت موسى إلى من حوله الذين ينادون بألوهيته؛ فقال - محرضا لهم على التفكير بعقولهم - فقال: إن كنتم تعقلون ؛ أي: إن كنتم ذوي عقل تعقلون؛ وتعلمون أن الألوهية ليست أجزاء مجزأة؛ إنما هي سلطان على الوجود كله.

                                                          عندئذ أيقن فرعون أنه ينكر ألوهيته؛ وأنه يحرض من حوله على إنكارها؛ ويدعوهم إلى إعلان بطلانها؛ هذا؛ وفي ذكر المشرق والمغرب بيان لقدرة الله (تعالى) الباهرة؛ وتنبيه إلى ما يشاهدونه كل يوم من شروق الشمس وغروبها في المغرب؛ والشمس بذلك تنتقل في مداراتها؛ فهل فرعون يفعل هذا؛ إنه ليس برب؛ ولا بإله.

                                                          اتجه فرعون إلى حجته التي يحسبها دامغة؛ وهي ذريعة الطغيان؛ فقال: قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين ؛ اللام هي الممهدة للقسم؛ وقد أكد تهديده بقول يشبه القسم؛ أو أقسم بما يقسم به مثله في طغوائه؛ و " اتخذت " ؛ معناها: جعلت لك إلها غيري؛ وكأن الألوهية أمر يجعل؛ وليس إذعانا لحقيقة ثابتة في الوجود؛ يخضع لها العبد بسلطان الربوبية وبسلطان الفطرة المدركة الواعية؛ وذلك ضلال كل من كان الطاغوت ديدنهم الذي لا يخالفونه؛ " لأجعلنك من المسجونين " ؛ هذا تهديد لموسى - عليه السلام -؛ أي: لألقين بك في السجن؛ حيث لا تستطيع قولا؛ وتكون في ضمن المسجونين الذين لا يسمع لهم صوت؛ ولا قول.

                                                          ولكن موسى؛ كليم الله؛ لم يرعه ذلك؛ ولم يرهبه؛ بل أخذ يدير القول إلى الحجة والبرهان؛ فقال لفرعون: قال أولو جئتك بشيء مبين ؛ كان فرعون رجلا يؤمن بالأمر المحسوس؛ فجاراه موسى - عليه السلام - فيما يؤمن؛ فقال ما قال: أولو جئتك ؛ الواو عاطفة على فعل محذوف؛ تقديره يناسب [ ص: 5350 ] المقام؛ وكأن سياق القول: أتسجنني؛ ولو جئتك بشيء مبين؛ أي: بحجة واضحة مبينة لرسالتي؛ ولبطلان ألوهيتك؛ ولعجزك؛ والشيء هو المعجزة الكبرى التي جاء بها موسى في ضمن تسع آيات بينات؛ وعبر بشيء في هذا المقام؛ لأن العصا؛ وما معها شيء؛ ولتقريب القول إلى فرعون؛ ولتكون الحجة نتيجة لما يقاوله؛ ويبطل قوله.

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية