الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( وإنا لنحن نحيي ونميت ونحن الوارثون ( 23 ) ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين ( 24 ) وإن ربك هو يحشرهم إنه حكيم عليم ( 25 ) )

يقول تعالى ذكره : ( وإنا لنحن نحيي ) من كان ميتا إذا أردنا ( ونميت ) من كان حيا إذا شئنا ( ونحن الوارثون ) يقول : ونحن نرث الأرض ومن عليها بأن نميت جميعهم ، فلا يبقى حي سوانا إذا جاء ذلك الأجل . وقوله : ( ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين ) اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك : ولقد علمنا من مضى من الأمم ، فتقدم هلاكهم ، ومن قد خلق وهو حي ، ومن لم يخلق بعد ممن سيخلق .

[ ص: 90 ] ذكر من قال ذلك :

حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا سفيان ، عن أبيه ، عن عكرمة ( ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين ) قال : المستقدمون : من قد خلق ومن خلا من الأمم ، والمستأخرون : من لم يخلق .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا الحكم ، قال : ثنا عمرو بن قيس ، عن سعيد بن مسروق ، عن عكرمة ، في قوله ( ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين ) قال : هم خلق الله كلهم ، قد علم من خلق منهم إلى اليوم ، وقد علم من هو خالقه بعد اليوم .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق . قال : أخبرنا ابن التيمي ، عن أبيه ، عن عكرمة ، قال : إن الله خلق الخلق ففرغ منهم ، فالمستقدمون : من خرج من الخلق ، والمستأخرون : من بقي في أصلاب الرجال لم يخرج .

حدثني محمد بن أبي معشر ، قال : أخبرني أبو معشر ، قال : سمعت عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود يذاكر محمد بن كعب في قول الله ( ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين ) فقال عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود : خير صفوف الرجال المقدم ، وشر صفوف الرجال المؤخر ، وخير صفوف النساء المؤخر ، وشر صفوف النساء المقدم ، فقال محمد بن كعب : ليس هكذا ، ولقد علمنا المستقدمين منكم : الميت والمقتول ، والمستأخرين : من يلحق بهم من بعد ، وإن ربك هو يحشرهم ، إنه حكيم عليم ، فقال عون بن عبد الله : وفقك الله وجزاك خيرا .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا المعتمر ، عن أبيه ، قال : قال قتادة : المستقدمين : من مضى ، والمستأخرين : من بقي في أصلاب الرجال .

حدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا سعيد بن منصور ، قال : ثنا أبو الأحوص ، قال : ثنا سعيد بن مسروق ، عن عكرمة وخصيف ، عن مجاهد ، في قوله ( ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين ) قالا من مات ومن بقي .

[ ص: 91 ] حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله ( ولقد علمنا المستقدمين منكم ) قال : كان ابن عباس يقول : آدم صلى الله عليه وسلم ومن مضى من ذريته ( ولقد علمنا المستأخرين ) : من بقي في أصلاب الرجال .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ( ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين ) قال : المستقدمون آدم ومن بعده ، حتى نزلت هذه الآية : والمستأخرون : قال : كل من كان من ذريته .

قال أبو جعفر : أظنه أنا قال : ما لم يخلق وما هو مخلوق .

حدثنا أحمد ، قال : ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا سفيان ، عن أبيه ، عن عكرمة ، قال : المستقدمون : ما خرج من أصلاب الرجال ، والمستأخرون : ما لم يخرج . ثم قرأ ( وإن ربك هو يحشرهم إنه حكيم عليم ) .

وقال آخرون : عنى بالمستقدمين : الذين قد هلكوا ، والمستأخرين : الأحياء الذين لم يهلكوا .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله ( ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين ) يعني بالمستقدمين : من مات ، ويعني بالمستأخرين : من هو حي لم يمت .

حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله ( ولقد علمنا المستقدمين منكم ) يعني الأموات منكم ( ولقد علمنا المستأخرين ) بقيتهم ، وهم الأحياء ، يقول : علمنا من مات ومن بقي .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله ( ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين ) قال : المستقدمون منكم : الذين مضوا في أول الأمم ، والمستأخرون : الباقون .

وقال آخرون : بل معناه : ولقد علمنا المستقدمين في أول الخلق والمستأخرين في آخرهم .

[ ص: 92 ] ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن المثنى : قال : ثنا عبد الوهاب ، قال : ثنا داود ، عن عامر في هذه الآية ( ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين ) قال أول الخلق وآخره .

حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا ابن أبي عدي ، عن داود ، عن الشعبي ، في قوله ( ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين ) : ما استقدم في أول الخلق ، وما استأخر في آخر الخلق .

حدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا علي بن عاصم ، عن داود بن أبي هند ، عن عامر ، في قوله ( ولقد علمنا المستقدمين منكم ) قال : في العصر ، والمستأخرين منكم في أصلاب الرجال ، وأرحام النساء .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : ولقد علمنا المستقدمين من الأمم ، والمستأخرين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، وحدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا شبابة ، قال : أخبرنا ورقاء ، وحدثني المثنى ، قال : أخبرنا أبو حذيفة ، قال : ثنا شبل جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد المستقدمين منكم ، قال : القرون الأول ، والمستأخرين : أمة محمد صلى الله عليه وسلم .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .

حدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا محمد بن عبيد ، قال : ثني عبد الملك ، عن قيس ، عن مجاهد ، في قوله ( ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين ) قال : المستقدمون : ما مضى من الأمم ، والمستأخرون : أمة محمد صلى الله عليه وسلم .

حدثني المثنى ، قال : ثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن عبد الملك ، عن قيس ، عن مجاهد ، بنحوه .

[ ص: 93 ] حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن عبد الملك ، عن مجاهد بنحوه ، ولم يذكر قيسا .

وقال آخرون : بل معناه : ولقد علمنا المستقدمين منكم في الخير ، والمستأخرين عنه .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين ) قال : كان الحسن يقول : المستقدمون في طاعة الله ، والمستأخرون في معصية الله .

حدثني المثنى ، قال : ثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن عباد بن راشد ، عن الحسن ، قال : المستقدمين في الخير ، والمستأخرين : يقول : المبطئين عنه .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : ولقد علمنا المستقدمين منكم في الصفوف في الصلاة ، والمستأخرين فيها بسبب النساء .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، عن رجل أخبرنا عن مروان بن الحكم أنه قال : كان أناس يستأخرون في الصفوف من أجل النساء ، قال : فأنزل الله ( ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين ) .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا جعفر بن سليمان ، قال : أخبرني عمرو بن مالك ، قال سمعت أبا الجوزاء يقول في قول الله ( ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين ) قال : المستقدمين منكم في الصفوف في الصلاة والمستأخرين .

حدثني محمد بن موسى الحرسي ، قال : ثنا نوح بن قيس ، قال : ثنا عمرو بن مالك ، عن أبي الجوزاء ، عن ابن عباس ، قال : كانت تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة ، قال ابن عباس : لا والله ما إن رأيت مثلها قط ، فكان بعض المسلمين إذا صلوا استقدموا ، وبعض يستأخرون ، فإذا سجدوا ، نظروا إليها من تحت أيديهم ، فأنزل الله ( ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين ) .

[ ص: 94 ] حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا نوح بن قيس ، وحدثنا أبو كريب ، قال : ثنا مالك بن إسماعيل ، قال : ثنا نوح بن قيس ، عن عمرو بن مالك ، عن أبي الجوزاء ، عن ابن عباس قال : كانت تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة حسناء من أحسن الناس ، فكان بعض الناس يستقدم في الصف الأول لئلا يراها ، ويستأخر بعضهم حتى يكون في الصف المؤخر ، فإذا ركع نظر من تحت إبطيه في الصف ، فأنزل الله في شأنها ( ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين ) .

قال أبو جعفر : وأولى الأقوال عندي في ذلك بالصحة قول من قال : معنى ذلك : ولقد علمنا الأموات منكم يا بني آدم فتقدم موته ، ولقد علمنا المستأخرين الذين استأخر موتهم ممن هو حي ومن هو حادث منكم ممن لم يحدث بعد ، لدلالة ما قبله من الكلام ، وهو قوله ( وإنا لنحن نحيي ونميت ونحن الوارثون ) وما بعده وهو قوله ( وإن ربك هو يحشرهم ) على أن ذلك كذلك ، إذ كان بين هذين الخبرين ، ولم يجر قبل ذلك من الكلام ما يدل على خلافه ، ولا جاء بعد . وجائز أن تكون نزلت في شأن المستقدمين في الصف لشأن النساء والمستأخرين فيه لذلك ، ثم يكون الله عز وجل عم بالمعنى المراد منه جميع الخلق ، فقال جل ثناؤه لهم : قد علمنا ما مضى من الخلق وأحصيناهم ، وما كانوا يعملون ، ومن هو حي منكم ، ومن هو حادث بعدكم أيها الناس ، وأعمال جميعكم خيرها وشرها ، وأحصينا جميع ذلك ونحن نحشر جميعهم ، فنجازي كلا بأعماله ، إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا . فيكون ذلك تهديدا ووعيدا للمستأخرين في الصفوف لشأن النساء ولكل من تعدى حد الله وعمل بغير ما أذن له به ، ووعدا لمن تقدم في الصفوف لسبب النساء ، وسارع إلى محبة الله ورضوانه في أفعاله كلها .

وقوله : ( وإن ربك هو يحشرهم ) يعني بذلك جل ثناؤه : وإن ربك يا محمد هو يجمع جميع الأولين والآخرين عنده يوم القيامة ، أهل الطاعة منهم والمعصية ، وكل أحد من خلقه ، المستقدمين منهم والمستأخرين .

وبنحو ما قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل .

[ ص: 95 ] ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( وإن ربك هو يحشرهم ) قال : أي الأول والآخر .

حدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا أبو خالد القرشي ، قال : ثنا سفيان ، عن أبيه ، عن عكرمة ، في قوله ( وإن ربك هو يحشرهم ) قال : هذا من هاهنا ، وهذا من هاهنا .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس ( وإن ربك هو يحشرهم ) قال : وكلهم ميت ، ثم يحشرهم ربهم .

حدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا علي بن عاصم ، عن داود بن أبي هند ، عن عامر ( وإن ربك هو يحشرهم ) قال : يجمعهم الله يوم القيامة جميعا ، قال الحسن : قال علي : قال داود : سمعت عامرا يفسر قوله ( إنه حكيم عليم ) يقول : إن ربك حكيم في تدبيره خلقه في إحيائهم إذا أحياهم ، وفي إماتتهم إذا أماتهم ، عليم بعددهم وأعمالهم ، وبالحي منهم والميت ، والمستقدم منهم والمستأخر .

كما حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : كل أولئك قد علمهم الله ، يعني المستقدمين والمستأخرين .

التالي السابق


الخدمات العلمية