الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 1051 ] [ 46 ] باب صلاة الخوف

" الفصل الأول "

1420 - عن سالم بن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهم - عن أبيه ، قال : غزوت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل نجد ، فوازينا العدو ، فصاففنا لهم ، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي لنا ، فقامت طائفة معه ، وأقبلت طائفة على العدو ، وركع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمن معه وسجد سجدتين ، ثم انصرفوا مكان الطائفة التي لم تصل ، فجاءوا ، فركع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهم ركعة ، وسجد سجدتين ، ثم سلم ، فقام كل واحد منهم ، فركع لنفسه ركعة ، وسجد سجدتين . وروى نافع نحوه . وزاد : فإن كان خوف أشد من ذلك صلوا رجالا ، قياما على أقدامهم ، أو ركبانا مستقبلي القبلة ، أو غير مستقبليها ، قال نافع : لا أرى ابن عمر ذكر ذلك إلا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . رواه البخاري .

التالي السابق


[ 46 ] باب صلاة الخوف

أي : أحكام الصلاة عند الخوف من الكفار ، وأجمعوا على أن صلاة الخوف ثابتة الحكم بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - وحكي عن المزني أنه قال : هي منسوخة ، وعن أبي يوسف : أنها مختصة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقوله تعالى : وإذا كنت فيهم ، وأجيب : بأنه قيد واقعي نحو قوله : إن خفتم في صلاة المسافر ، ثم اتفقوا على أن جميع الصفات المروية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الخوف معتد بها ، وإنما الخلاف بينهم في الترجيح ، قيل : جاءت في الأخبار على ستة عشر نوعا ، وقيل : أقل . وقيل : أكثر ، وقد أخذ بكل رواية منها جمع من العلماء ، وما أحسن قول أحمد : لا حرج على من صلى بواحدة مما صح عنه - عليه الصلاة والسلام - . قال ابن حجر : والجمهور على أن الخوف لا يغير عدد الركعات ، ومعنى الخبر السابق ، وفي الخوف ركعة ، الذي أخذ بظاهره ابن عباس : أن المأموم ينفرد فيه عن الإمام بركعة كما يأتي ; ليلتئم مع بقية الأحاديث المصرحة بأنه - عليه الصلاة والسلام - لم يصل هو وأصحابه في الخوف أقل من ركعتين .

" الفصل الأول "

1420 - ( عن سالم بن عبد الله بن عمر ، عن أبيه ، قال ) أي : ابن عمر ( غزوت ) أي : الكفار . في القاموس غزا العدو : سار إلى قتالهم . ( مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم ) : حال ( قبل نجد ) : بكسر القاف ، وفتح الباء ، نصبا على الظرف ، أي : ناحيته ، والنجد ما ارتفع من الأرض . قال الأبهري : والمراد هنا نجد الحجاز لا نجد اليمن . وقال ابن حجر : هو اسم لكل ما ارتفع من بلاد العرب من تهامة إلى العراق . ( فوازينا العدو ) أي : حاذيناه وقابلناه . في النهاية الموازاة : المقابلة والمواجهة ، يقال : وازيته إذا حاذيته . وفي الصحاح هو بإذائه أي : بحذائه ، وقد آزيته أي : حاذيته ، ولا تقل وازيته . والمفهوم من القاموس أيضا أنه مهموز فقط ، لكن رواية المحدثين مقدمة على نقل اللغويين ، مع أن المثبت مقدم على النافي ، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ ، لا سيما ووافقهم صاحب النهاية أو هما لغتان كالمواكلة والمواخذة . ( فصاففنا ) أي : قمنا صفين كما سيأتي . ( لهم ) أي : لحربهم ، أو جعلنا نفوسنا صفين في مقابلتهم . ( فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي ) أي : بالجماعة إماما . ( لنا ) أي : لتحصيل ثوابنا على التسوية بيننا حيث لم يصل مع جماعة ، وترك جماعة أخرى يصلون مع غيره ، وفيه دلالة على كراهة تعدد الجماعة ، لا سيما إذا كان القوم حاضرين ، وإشعار بأن الفرض لا يجوز خلف التنفل ، وإلا لأمكنه - عليه الصلاة والسلام - أن يصلي مرتين بالطائفتين ، والحديث من أقوى الحجج على وجوب الجماعة ، حيث ما ترك في تلك الحالة .

ثم رأيت ابن الهمام قال : واعلم أن صلاة الخوف على الصفة المذكورة إنما تلزم إذا تنازع القوم في الصلاة خلف الإمام ، أما إذا لم يتنازعوا فالأفضل أن يصلي بإحدى الطائفتين تمام الصلاة ، ويصلي بالطائفة الأخرى إمام آخر تمامها . ( فقامت طائفة معه ) : الظاهر أنهم السابقون في الإسلام . ( وأقبلت طائفة ) : وهم اللاحقون . ( على العدو ) أي : على جانبهم بالوقوف في مقابلتهم لدفع مقاتلتهم . ( وركع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) أي : أتى بالركوع . ( بمن معه ) : [ ص: 1052 ] أي : مع الذين قاموا معه . ( وسجد سجدتين ) أي : بمن معه . ( ثم انصرفوا ) أي : الطائفة التي صلت تلك الركعة . ( مكان الطائفة التي لم تصل ، فجاءوا ) أي : التي ما صلت . ( فركع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) أي : فعل الركوع . ( بهم ) : وقول ابن الملك أي : صلى لم يصح ; لأن قوله : ( ركعة ) بمعنى ركوعا ; لقوله : ( وسجد سجدتين ) إذ الركعة لا تكون إلا بانضمام السجدتين . ( ثم سلم ) أي : النبي - صلى الله عليه وسلم - وحده . ( فقام كل واحد منهم ) أي : من المأمومين من الطائفتين . ( فركع لنفسه ركعة ، وسجد سجدتين ) وتفصيله : أن الطائفة الثانية ذهبوا إلى وجه العدو ، وجاءت الأولى إلى مكانهم وأتموا صلاتهم منفردين ، وسلموا وذهبوا إلى وجه العدو ، وجاءت الطائفة الثانية وأتموا منفردين ، وسلموا كما ذكره بعض الشراح من علمائنا . قال ابن الملك : كذا قيل ، وبهذا أخذ أبو حنيفة ، لكن الحديث لم يشعر بذلك اهـ .

وهو كذلك ، لكن . قال ابن الهمام : ولا يخفى أن هذا الحديث إنما يدل على بعض ما ذهب إليه أبو حنيفة ، وهو مشي الطائفة الأولى ، وإتمام الطائفة الثانية في مكانها من خلف الإمام ، وهو أقل تغييرا ، وقد دل على تمام ما ذهب إليه ما هو موقوف على ابن عباس من رواية أبي حنيفة ، ذكره محمد في كتاب الآثار ، وساق إسناد الإمام ، ولا يخفى أن ذلك مما لا مجال للرأي : فيه ، فالموقوف فيه كالمرفوع اهـ .

وبه اندفع كلام النووي بأنه لم يرد في شيء من طرق الحديث التي في الصحيحين وغيرهما : أن فرقة من الفرقتين جاءت إلى مكانها ثم أتمت صلاتها ، وإنما فيها أن كلا صلى بعد سلامه - عليه الصلاة والسلام - ما بقي في محله من غير مجيء . قال الطيبي : يفهم من الحديث أن كل طائفة اقتدوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ركعة واحدة ، وصلوا لأنفسهم الركعة الأخيرة ، وهذا مذهب أبي حنيفة اهـ .

واختاره البخاري ، ثم المذهب أن الطائفة الأولى تتم صلاتها بلا قراءة كاللاحق ، والطائفة الثانية تتمها بالقراءة كالمسبوق ، وهذا إن كان الإمام مسافرا ، وأما إن كان مقيما والصلاة رباعية ، فيصلي مع كل طائفة ركعتين ، والمغرب مطلقا تصلى مع الطائفة الأولى ركعتين ، هذا وقد قال العلماء : قد جازت هذه الكيفية مع كثرة الأفعال فيها بلا ضرورة ; لصحة الخبر بها مع عدم المعارض ; لأنها كانت في يوم ، والكيفية الآتية في ذات الرقاع كانت في يوم آخر ، ودعوى النسخ باطلة لاحتياجها إلى معرفة التاريخ ، وتعذر الجمع ، وليس هنا واحد منهما .

( وروى نافع ) أي : عن ابن عمر أيضا . ( نحوه ) أي : معنى ما رواه سالم عنه . قال ابن الهمام : وما في البخاري في تفسير سورة البقرة ، عن نافع أن ابن عمر : كان إذا سئل عن صلاة الخوف قال : يتقدم الإمام وطائفة من الناس ، فيصلي بهم ركعة ، وتكون طائفة منهم بينهم وبين العدو لم يصلوا ، فإذا صلى الذين معه ركعة استأخروا مكان الذين لم يصلوا ولا يسلمون ، ويتقدم الذين لم يصلوا فيصلون معه ركعة ، ثم ينصرف الإمام ، وقد صلى ركعتين ، فتقوم كل واحدة من الطائفتين ، فيصلون لأنفسهم ركعة بعد أن ينصرف الإمام ، فيكون كل واحد من الطائفتين قد صلى ركعتين ، فإن كان خوف . إلخ . فالصيغة في الحديث صيغة الفتوى لا إخبار عما كان - عليه الصلاة والسلام - فعل ، وإلا لقال : قام - عليه الصلاة والسلام - دون أن يقول : قام الإمام ; ولذا قال مالك : قال نافع : لا أرى . إلخ اهـ . وبه يتبين تحقيق هذا الحديث .

( وزاد ) أي : نافع عن ابن عمر في روايته ، عن سالم عنه ، وهذا أظهر من قول ابن حجر : أي : زاد ابن عمر . ( فإن كان خوف ) أي : هناك أو وقع خوف شديد ، والتنوين للتعظيم . ( هو أشد من ذلك ) أي : من الخوف الذي تقدم ، وهو مجرد المصافة ، وهو ما لا يمكن معه الجماعة بأن يلتحم القتال . ( صلوا ) أي : الناس منفردين . ( رجالا ) : بكسر الراء ، وتخفيف الجيم ، جمع رجلان بضم الراء ، بمعنى الراجل ضد الراكب ، وقيل بضم الراء ، وتشديد الجيم ، جمع راجل ، كذا قال في المفاتيح : والأظهر أن رجالا بالتخفيف جمع راجل ، وكذا ( قياما ) جمع قائم ، وقيل : إنه مصدر [ ص: 1053 ] بمعنى اسم الفاعل أي : قائمين . وهما حالان من فاعل صلوا ، أي : صلوا حال كونهم راجلين قائمين . ( على أقدامهم ) : وقال ابن حجر : بين بقوله قياما أن رجالا جمع راجل لا رجل ، وفيه إشارة إلى ترك الركوع والسجود ، والإيماء إليهما عند العجز عنهما ; لقوله : قياما على أقدامهم ، ويكون المراد قيامهم على أقدامهم في كل حالاتهم من صلاتهم . ( أو ركبانا ) أي : راكبين ، فأو للتخيير ، أو الإباحة ، أو التنويع . ( مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها ) أي : بحسب ما يتسهل لهم ، وفي تقديم الراجل والمستقبل إشارة إلى الأفضلية والأولوية . وفي مذهب أبي حنيفة : يفسدها المشي ، والركوب ، والقتال . ( قال نافع : لا أرى بالضم ) أي : لا أظن . ( ابن عمر ذكر ذلك ) أي : المزيد الموقوف . قال ابن حجر : أي : فإن كان خوف . إلخ . أو مستقبلي القبلة إلخ . وهو ظاهر كلام أئمتنا ، لكن جزم بعض المحققين بالأول . قلت : فعليه المعول . إلا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه لا مجال للرأي فيه ، فهو في حكم المرفوع .

قال ابن حجر : وهو كما ظن نافع ، فقد جزم الشافعي بأن ابن عمر رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والحاصل أنه يلزمهم فعل الصلاة في وقتها ، ولم يجز لهم تأخيرها عنه ، وقيل : تمتنع هذه الكيفية ويجب تأخيرها ، حتى يزول الخوف ، كما فعل - عليه الصلاة والسلام - يوم الخندق ، وغلط فاعل ذلك بأنه مخالف للقرآن والسنة ، وقضية الخندق منسوخة كما مر اهـ .

وفيه أن قضية الخندق لم يكن فيها اشتداد الخوف . قال : وعن أبي حنيفة يجوز التأخير ولا يجب . قلت : لعله رواية عنه . قال : ويسن لهم الجماعة في هذه الحالة ، كما صرحت به الآية ، وقول أبي حنيفة بامتناعها ممنوع . قلت : التصريح في الآية ممنوع ، فالاعتراض على الإمام مدفوع . قال : ومن الشواذ القول بأنه يجزئ مكان كل ركعة تكبيرة ، وبأنه يجزئ ركعة يومئ بها ، فإن لم يقدر فسجدة ، وإن لم يقدر فتكبيرة اهـ .

ولعل القائل به أراد إدراك حرمة الوقت بما أمكنه من الفعل ، لا أنه يجزئ عن الصلاة بحيث تسقط عنه ; لأنه مخالف للكتاب والسنة والإجماع ، والله أعلم . ( رواه البخاري ) . قال ابن الهمام : حديث ابن عمر في الكتب الستة واللفظ للبخاري .

وقد روى أبو داود ، عن خصيف الجزري ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله بن مسعود قال : قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقاموا صفا خلفه مستقبل العدو ، فصلى بهم - عليه السلام - ركعة ، ثم جاء الآخرون فقاموا في مقامهم ، واستقبل هؤلاء العدو ، فصلى بهم - عليه السلام - ركعة ثم سلم ، فقام هؤلاء فصلوا لأنفسهم ركعة وسلموا ، وأعل بأن أبا عبيدة لم يسمع عن أبيه ، وخصيف ليس بالقوي .




الخدمات العلمية