الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      هذا ومن باب الإشارة في هذه الآيات ( ألم تر إلى ) ملإ القوى ( من بني إسرائيل ) البدن ( من بعد موسى ) القلب ( إذ قالوا لنبي ) عقولهم: ( ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله ) وطريق الوصول إليه بواسطة أمره وإرشاده ( قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا ) أي: إني أتوقع منكم عدم المقاتلة؛ لانغماسكم في أوحال الطبيعة ( قالوا: وما لنا ألا نقاتل ) في طريق السير إلى الله تعالى ( وقد أخرجنا ) من ديار استعداداتنا الأصلية التي لم نزل بالحنين إليها، واغتربنا عن أبناء كمالاتنا اللاتي لم نبرح عن مزيد البكاء عليها ( فلما كتب عليهم القتال ) لعدوهم الذي تسبب لهم الاغتراب، وأحل بهم العجب العجاب؛ ( تولوا )، وأعرضوا عن مقاتلته، وانتظموا في سلك شيعته، ( إلا قليلا منهم ) وهم القوى المستعدة ( والله عليم بالظالمين ) الذين نقصوا حظوظهم ( وقال لهم نبيهم: إن الله قد بعث لكم طالوت ) الروح الإنساني ( ملكا ) متوجا بتاج الأنوار الإلهية، جالسا على كسرى التدبيرات الصمدانية؛ ( قالوا ) لاحتجابهم بحجاب الأنانية، وغفلتهم عن العلوم الحقانية: كيف يكون له الملك علينا مع انحطاط مرتبته بتنزله إلى عالم الكثافة من عالمه الأصلي، وليس فيه مشابهة لنا، ( ونحن أحق بالملك منه )؛ لاشتراكنا في عالمنا، ومشابهة بعضنا بعضا، وشبيه الشيء ميال إليه، قريب اتباعه له

                                                                                                                                                                                                                                      ولكل شيء آفة من جنسه

                                                                                                                                                                                                                                      ( ولم يؤت سعة ) من مال التصرف، إذ لا يتصرف إلا بالواسطة؟ قال: إن الله تعالى اختاره عليكم؛ لبساطته وتركبكم، وزاده سعة في العلم الإلهي، وقوة في الذات النوراني، ( والله يؤتي ملكه من يشاء ) فيدبره بإذنه ( والله واسع ) لسعة الإطلاق، ( عليم ) بالحكم التي تقتضي الظهور، والتجلي بمظاهر الأسماء ( وقال لهم نبيهم إن آية ملكه ) عليكم وخلافته من قبل الرب فيكم ( أن يأتيكم ) تابوت الصدر، ( فيه سكينة ) أي: طمأنينة ( من ربكم ) وهي الطمأنينة بالإيمان، والأنس بالله تعالى ( وبقية مما ترك آل موسى ) القلب ( وآل هارون ) السر، وهي من التوحيد، وعصا لا إله إلا الله، التي تلقف عظيم سحر صفات النفس، وطست تجلي الأنوار، الذي يغسل به قلوب الأنبياء، وشيء من توراة الإلهامات، تحمله ملائكة الاستعدادات لدى طالوت الروح، فعند ذلك تسلم له الخلافة، وينقاد له جميع أسباط صفات الإنسان، ( فلما فصل طالوت وجنوده ) من وزير العقل، ومشير القلب، ومدبر الأفهام، ونظام الحواس؛ ( قال إن الله مبتليكم بنهر ) الطبيعة الجسمانية، المترع بمياه الشهوات، ( فمن شرب منه )، وكرع مفرطا في الري؛ فليس من أشياعي الذين هم من عالم الروحانيات، وأهل مكاشفات الصفات، ( ومن لم يطعمه ) ويذقه؛ فإنه من سكان حظائر القدس، وحضار جلوة عرائس منصة الأنس، ( إلا من اغترف غرفة بيده )، وقنع من ذلك بقدر الضرورة، ولاحتياج من غير حرص وانهماك ( فشربوا منه ) وكرعوا وانهمكوا فيه ( إلا قليلا منهم ) وهم المتنزهون عن الأقذار الطبيعية، المتقدسون عن ملابسها، المتجردون عن غواشيها، وقليل ما هم، فلما جاوز طالوت الروح نهر الطبيعة وعبره ( هو والذين آمنوا ) من القلب والعقل والملك وغيرهم من اتباع الروح معه؛ قال بعضهم وهم الضعفاء الذين [ ص: 176 ] لم يصلوا إلى مقام التمكين: ( لا طاقة لنا اليوم ) بمحاربة جالوت النفس وأعوانه؛ لعراقتهم بالخدع والدسائس، ( قال الذين ) يتيقنون ( أنهم ملاقو الله ) بالرجوع إليه: ( كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة ) وقهرتها، حتى أذهبت كثرتها ( بإذن الله ) وتيسيره، ( والله مع الصابرين ) بالتجلي الخاص لهم، ( فلما برزوا ) لحرب جالوت وجنوده؛ تبرءوا من الحول والقوة، وقالوا: ( ربنا أفرغ علينا صبرا ) واستقامة، ( وثبت أقدامنا ) في ميادين الجهاد، حتى لا نرجع القهقرى من بعد، ( وانصرنا على ) أعدائنا الذين ستروا الحق، وهم النفس الأمارة وصفاتها، ( فهزموهم ) وكسروهم ( بإذن الله، وقتل داود ) القلب ( جالوت ) النفس، ووصلوا كلهم إلى مقام التمكين، فلا يخشون الرجعة والردة، وكان قد رماه بحجر التسليم، في مقلاع الرضا، بيد ترك الالتفات إلى السوى، فأصاب ذلك دماغ هواه، فخر صريعا، فأتى الله تعالى داود ملك الخلافة، وحكمة الإلهامات، ( وعلمه مما يشاء ) من صنعة لبوس الحروب، ومنطق طيور الواردات، وتسبيح جبال الأبدان، ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ) كأرباب الطلب ( ببعض ) كالمشايخ الواصلين؛ لفسدت أرض استعداداتهم المخلوقة في أحسن تقويم، عند استيلاء جالوت النفس، ( ولكن الله ذو فضل على العالمين )، ومن فضله: تحريك سلسلة طلب الطالبين، وإلهام أسرارهم إرادة المشايخ الكاملين، وتوفيقهم للتمسك بذيل تربيتهم، والتشبث بأهداب سيرتهم، فسبحانه من جواد لا يبخل، ومتفضل على من سأل ومن لم يسأل.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية