الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                [ ص: 517 ] الباب السادس

                                                                                                                في سبب الكفارة

                                                                                                                وفي التلقين : الكفارة كفارتان ، صغرى لتأخير القضاء عن زمنه ، وكبرى وهي لا تجب إلا لرمضان بتعمد إفطاره على وجه الهتك من غير عذر من جماع أو أكل أو غيرهما ، أو رفض أو إمساك بعد الشروع أو عزم على تركه فلم يشرع فيه ، وعلى كل معتقد لوجوبه من رجل أو امرأة لكل يوم كفارة ، ولا يسقطها طرو العذر بعد ذلك ، ولا يقدم التكفير في يوم عن يوم .

                                                                                                                والأصل في ذلك ما في مسلم : جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : هلكت يا رسول الله ، قال : وما أهلكك ؟ قال : وقعت على أهلي في رمضان ، قال : هل تجد ما تعتق به رقبة ؟ قال : لا ، قال : فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين ؟ قال : لا ، قال : فهل تجد ما تطعم ستين مسكينا ؟ قال : لا ، ثم جلس فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بعرق فيه تمر ، قال : تصدق بهذا ، فقال : أفقر منا ، فما ( بين لابتيها أحوج إليه منا ) ! فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت أنيابه ، ثم قال : اذهب وأطعمه أهلك " . زاد أبو داود بعرق فيه ( تمر قدره ) خمسة عشر صاعا ، وقال : صم واستغفر الله . والعرق - بفتح الراء - الزنبيل ويروى بسكونها ، وخالف الأصمعي فقال : بل ذلك العظم عليه لحم . واللابة الحجارة [ ص: 518 ] السود ، فهو يشير إلى الجبال المحدقة بالمدينة . وليس في قوله - صلى الله عليه وسلم - : أطعمه أهلك : ما يوجب عدم وجوب الكفارة ; خلافا للشافعي والنخعي ; لأن الوجوب مستفاد من قوله - صلى الله عليه وسلم - : تصدق بهذا . ولما كان سد خلة الجوع مقدما على الكفارات أذن له في أكله ، وتبقى الكفارة في ذمته ، وليس في الحديث ما يبرئه ألبتة .

                                                                                                                قاعدة

                                                                                                                إذا رتب الحكم عقب أوصاف مناسبة جعل مجموعها علة له ، وإن كان بعضها ليس بمناسب اعتبر المناسب ، وقد رتبت الكفارة عقب أوصاف غير مناسبة نحو كونه أعرابيا ، ومناسبة وهو إفساد الصوم بالجماع ، واعتبره الشافعي على القاعدة ولم يوجب الكفارة بالأكل ونحوه لقصوره على الجماع ; لكونه لزم إفساد صومين في الواطئ ، وفي الموطوءة بخلاف الآكل ، واعتبرنا نحن وصف الإفساد الذي هو في الجماع وغيره ; لأن التعليل بالعلة العامة أولى من الخاصة لكثرة فروعها ، وبقي وصف مناسب لم يعتبره أحد فيما علمت هو كونه جماعا في الزوجة ، وهو مناسب من جهة أنه الأكثر في الوجود فيكون العقاب الزجري عنه أولى .

                                                                                                                فروع ثمانية :

                                                                                                                الأول : في الكتاب : تجب الكفارة ، والقضاء بمغيب الحشفة خلافا ل ( ش ) في القضاء - محتجا بأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يأمره بالقضاء . في رواية مسلم .

                                                                                                                وجوابه : أنه أمره في رواية الموطأ بالقضاء ، قال سند : وكذلك لو وطئ امرأته في دبرها أو فرج ميتة أو بهيمة ، وقاله ( ش ) خلافا ل ( ح ) ; لأنه يوجب الغسل فيوجب الكفارة .

                                                                                                                تنبيه

                                                                                                                قد تقدم في الطهارة إيجاب التقاء الختانين . . . حكما .

                                                                                                                [ ص: 519 ] الثاني : في الكتاب : إذا وطئها في يوم مرتين فكفارة واحدة ، وقاله ( ح ) و ( ش ) ; لأن الوطء الثاني لم يصادف صوما صحيحا فلا يوجب كفارة ; لقصوره عن مورد الإجماع ، قال ابن حنبل وبعض القرويين : إن كفر عن الوطء الأول ثم وطئ ، فكفارة أخرى قياسا على كفارة الفدية في الحج ; فإنه إذا تطيب بعد أن تطيب وكان كفر عن الأول جدد الكفارة ، وإلا فكفارة واحدة ، وقياسه على الوطء الأول بجامع التحريم .

                                                                                                                الثالث : في الكتاب : إن أكره امرأته على الوطء في رمضان عليه كفارتان عنه وعنها ، وكذلك يهدي عنها في الحج ; لأنه أفسد صومين وحجين ، وعلى كل واحد منهما القضاء عن نفسه ، قال سند : وروي عن مالك عليه كفارة واحدة عنه - وقاله الأئمة ; لأن الوجوب عليه فرع الوجوب عليها ، ولا يجب عليها فلا يجب عليه .

                                                                                                                وجوابه : أنه لم يكفر بطريق النيابة بل بفعله سبب الكفارتين ، وهذا مختلف فيه عندنا ، وإذا قلنا بطريق النيابة فكل ما لا يصح كفارة عنها لا يكفر عنها ، نحو الأمة لا يكفر عنها بالعتق ، قال صاحب النكت : بل بالإطعام ; لأن الولاء لا يثبت والصوم لا يدخله النيابة ، ولو أطاعت الأمة السيد كفر عنها ; لأن السيادة كالإكراه ، وكذلك . . . وطء السيد وإن أطاعته ، قال بعض القرويين : وإذا أكره زوجته وعجز عن التكفير فكفرت من مالها بالإطعام ، رجعت عليه بالأقل من مكيله أو الثمن الذي اشتري به الطعام أو قيمة العتق ; لأن الواجب عليه أحدها ، بخلاف الحميل بالطعام . . . فيما تحمل به ، يرجع بالثمن فقط لأنهما دخلا على ذلك ، ولو كان مكان الحميل أجنبي رجع بالأقل من الثمن أو القيمة أو المثل إن كان طعاما كالزوجة .

                                                                                                                الرابع : قال سند : لو طلع الفجر عليه مولجا فنزع ، قال ابن القاسم و ( ح ) و ( ش ) : لا شيء عليه ; لأن النزع ترك للجماع وليس بجماع ، كما لو حلف ألا يدخل الدار ، وهو فيها فخرج ، أو لا يركب الدابة فنزل ، فلا حنث عليه . وقال [ ص: 520 ] ابن الماجشون وابن حنبل : يقضي ; لما فيه من اللذة ، فلو تمادى ، قال عبد الوهاب و ( ح ) : بالقضاء فقط ، وقال ابن القصار و ( ش ) : بالقضاء والكفارة . وكذلك لو ابتدأ الإيلاج حال طلوع الفجر فلا تجب الكفارة ; لأنه لم يدخل في الصوم فلم يطرأ الجماع على صوم وإنما منع انعقاده ، وقيل : يجب ; لأن حديث الأعرابي لا تفصيل فيه ; فلو لم يعلم بالفجر حين طلوعه وهو يولج ، ثم تبين له فلم ينزع ، فإن قلنا : لا كفارة على الناسي ، لا كفارة هاهنا إلا أن يفعله منتهكا .

                                                                                                                الخامس : في الكتاب : إذا نوى الفطر نهار رمضان عليه القضاء والكفارة - ولو نوى قبل الشمس ، قال سند : قال ابن الماجشون : إن سها عن الصوم وسط الشهر لا شيء عليه بخلاف أوله ; لاستصحاب النية بخلاف العمد ، والمذهب التسوية ; لاندفاع النية الحكمية بضدها ، وخالف أشهب و ( ح ) و ( ش ) في الكفارة ; لأنه لم يعقد صوما فيفسد كمن لم يحرم بالحج أو الصلاة وجامع ، والفرق تعيين الزمان له بخلافها ، فإن نوى الفطر في أثناء النهار فمذهب الكتاب عليه القضاء ، وأسقطه ابن حبيب ، واستحبه سحنون ، بخلاف من بيت الفطر ; لأن النية لغير فعل ملغاة كالحج والعمرة ، قال صاحب النكت : من رفض صيامه أو صلاته بطلت ، بخلاف من رفض وضوءه أو حجه بعد كمالهما أو في خلالهما ، والفرق أن النية مرادة للتمييز ، والحج والوضوء متميزان بمكانيهما المعينين لهما ، والصلاة والصوم لم يعين لهما مكان ، فكان احتياجهما للنية أقوى فأثر الرفض .

                                                                                                                السادس : في الكتاب : من توقع في نهاره السفر أو المرض أو الجنون فأفطر ، فعليه القضاء والكفارة - وإن طرأت المبيحات في ذلك النهار ، وقاله ابن حنبل خلافا ل ( ش ) ; لأنه انتهك حرمة الصوم قبل المبيح ، وقيل : تنتقض الكفارة عند طرو [ المبيحات ] .

                                                                                                                السابع : في الكتاب : إذا أكل ناسيا في رمضان أو غير عالم بالفجر فعليه القضاء ، خلافا ل ( ح ) و ( ش ) في الأول ، وسلم ( ش ) في الثاني ، و ( ح ) في سبق الاستنشاق بالماء . لنا القياس على هذين الفرعين ، وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - في [ ص: 521 ] مسلم : " من نسي وهو صائم فأكل وشرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه " . فظاهر تخصيص ذلك بالله تعالى يقتضي أن العمد لا مدخل لله فيه ، وهذا يقتضي نفي الإثم لا نفي القضاء ، فإن أفطر بعد ذلك متأولا ، قال عبد الوهاب : ( لا كفارة عليه ) - ; قال سند : قال ابن حبيب : عليه الكفارة ; لأن الجهل ليس بنافع ; فلو أكل بعد ذلك أو جامع كفر عندنا ، وقيل : لا يكفر ; لأنه لم يفسد معصوما ، فلو طهرت قبل الفجر ، ولم تغتسل حتى طلع الفجر فأكلت لاعتقاد الجواز لم تكفر ; لأنه شبه إباحة ، وكذلك من أصبح جنبا فظن بطلان صومه ، وكذلك الذي يقدم من السفر ليلا فيظن أن صومه لا يجزيه ، وكذلك من سافر ميلين فظن أن سفره يبيح الفطر ، ومن رأى هلال شوال نصف النهار فظن أنه يبيح الفطر .

                                                                                                                الثامن : في الجلاب : تتعدد الكفارة بتعدد فساد الأيام عند مالك و ( ش ) ، وقال ( ح ) : إذا لم يكفر عن اليوم الأول فكفارة للجميع ، واختلف قوله في التداخل إذا كفر عن الأول ، وفي تداخل الرمضانين إذا لم يكفر عن الأول ; لنا القياس على سائر الكفارات ، وهو أولى من قياسه على الحدود .

                                                                                                                تمهيد : التداخل في الشرع يقع في الطهارة مع الغسل ، وفي العبادات كتحية المسجد . . . مع الفرض ، وصوم الاعتكاف مع رمضان ، والعمرة مع الحج ، وفي الحدود المماثلة في العدد على تفصيل يأتي ، وفي الأموال كدخول دية الأطراف في دية النفس ، والأخير في الأول كالفدية في الحج إذا اتحد السبب ، والعارفان في الوسط كالوطء بالشبهة إذا استمر واتحدت الشبهة وكان حال المرأة في الوسط أفضل من المبدأ والمنتهى ، فيجب لها صداق المثل باعتبار الوسط ، ولكن ظاهر المذهب يقتضي اعتبار الحالة الأولى مطلقا وصرح الشافعية بتنقل الصداق بتنقل الحالات ، والقليل في الكثير مثل الطرف مع النفس ، والكثير في القليل كالأطراف إذا اجتمعت مع السراية إلى النفس ، واختلف في تداخل الكفارات كما تقدم .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية